الأهمية المعمارية والتاريخية

[مصدر الصورة: © 1981 جان-كلود دافيد]
قبل تبيان القيمة المعمارية لجامع العادلية يجدر بنا أن نناقش الدور الذي لعبه مجمّع محمد باشا في الحياة العمرانية للمدينة. اعتُبِر هذا المجمع من قبل بعض الباحثين بداية للاستراتيجية العمرانية العثمانية لتطوير منطقة الأسواق المركزية على طول محورها التقليدي الممتد من الشرق إلى الغرب وتأسيس ما أسمته واتنبوغ ب "الممر العمراني العثماني". [18] تبلورت هذه الاستراتيجية بشكل واضح من خلال المجمعات العثمانية التي أنشئت في العقود اللاحقة كمجمع سكوللو محمد باشا (1574م) ومجمع بهرام باشا (1583م). ولكن التحليل المتأني لموقع مجمع محمد باشا وتوضع منشآته التجارية وتوجيه أسواقه يبين أن محمد باشا قد اتبع الاستراتيجية التي اتبعها خسرو باشا من قبله في اختيار موقع مجمعه بالقرب من مركز السلطة في المدينة وهو قصر الولاة وتطوير المنطقة المحيطة به. وقد تم تأمين التموضع المترابط والمتصل لمنشآت المجمع المختلفة من خلال شراء وهدم بعض الأبنية الني كنت توجد في الموقع إضافة إلى البناء فوق ساحة التدريبات العسكرية المملوكية. [19] وقد تمت الإشارة بشكل خاص إلى الدلالة الرمزية لإعادة استعمال موقع ذو ارتباط بالسلطة السابقة للمدينة. [20] شكلت منشآت المجمع المُدِرَّة للدخل والمُكرَّسَة حصرياً لدعم التجارة والحرف اعترافاً بالأهمية المتزايدة لحلب كمركز للتجارة الإقليمية والدولية، ووفرت البنية التحتية للعدد المتزايد من التجار والقنصليات التي تأسست في المدينة. لذلك كان لمجمع محمد باشا تأثير كبير على المدينة من الناحية العمرانية والوظيفية على حد سواء.
يشابه جامع العادلية إلى حد كبير جامع الخسروية وهو أول جامع عثماني بني في حلب وأدخل نمطاً معمارياً جديداً إلى المدينة ليصبح النموذج المحتذى في تصميم الجوامع التي بنيت في العقود اللاحقة. تظهرأوجه الشبه بشكل خاص في قاعة الصلاة المربعة والقبّة المركزية نصف الكروية والمئذنة الأسطوانية. إلا أن جامع العادلية، رغم كونه أصغر مساحة، يتفوق على الخسروية من حيث ابداع الحلول التصميمية وجودة مواد البناء والإنشاء ورشاقة النسب واتقان الزخارف. فكل من الرواق المزدوج وحوض الوضوء العثماني كان الأول من نوعه في المدينة في ذلك الوقت، في حين اتسمت قاعة الصلاة بصياغة قوية للفراغ المعماري بأواوينها العميقة وأطنافها الكبيرة المغطاة بالمقرنصات وجدرانها المبنية بالحجارة المنحوتة وعناصرها الزخرفية الغنية.
تزداد القيمة المعمارية لجامع العادلية عندما يوضع في سياقه الإقليمي وتلقي الضوء على النهج المعماري العثماني المتبع في الولايات والذي اعتمد على مزج الحلول التصميمية المستوردة من العاصمة مع تقنيات البناء المحلية مما طبع أبنيتها بطابع إقليمي مميز. حيث يمكن رصد العديد من العناصر المعمارية المتشابهة في جوامع أخرى قام بتصميمها المعمار سنان في مواقع جغرافية قريبة من حلب وتواريخ معاصرة لجامع العادلية مثل جامع السلطان سليمان في دمشق (1553-1558م) وجامع بهرام باشا في ديار بكر(1565-1573م) (شكل 34) وجامع الحاج أحمد باشا في قيصري (1576-1586م). [21] (شكل 35) ونذكر من هذه العناصر الرواق المزدوج أمام قاعة الصلاة والمسقط ذو الأواوين العميقة والشرفات الداخلية العلوية في قاعة الصلاة.
الشكل 34: المسقط المعماري لجامع بهرام باشا في ديار بكر (1565-1573) [مصدر الصورة: © 2010 غورلو نجيب أوغلو: عصر سنان]
الشكل 35: المسقط المعماري لجامع الحاج أحمد باشا في قيصري (1576-1586) [مصدر الصورة: © 2010 غورلو نجيب أوغلو: عصر سنان]
ولكن رغم هذه التشابهات تظهر كل من هذه الجوامع انتماء محلياً واضحاً في تفاصيلها الزخرفية وتقنيات بنائها. إن القرب الجغرافي والتزامن التاريخي لهذه الجوامع يسمح لنا بافتراض تبادل مستمر ومتواتر للأفكار التصميمية وربما للمعماريين في المنطقة. يبدو هذا الافتراض صحيحاً إلى درجة كبيرة عند ملاحظة التشابه التصميمي الكبير بين جامع بهرام باشا في ديار بكر (شكل 36، 37، 38، 39) وجامع العادلية، وعند تتبع بعض هذه الحلول التصميمية التي أعيد استعمالها لاحقاً في حلب من خلال جامعه المسمى بالبهرمية والذي بني في عام 1583. في النهاية يمكن القول على الرغم من أن جامع العادلية قد تم التخطيط له في المكتب المعماري السلطاني للعاصمة إلا أن حلوله التصميمية وعناصره الزخرفية تحمل هوية إقليميّة ومحليّة مميزة ومتطورة. (شكل 40)
الشكل 36: جامع بهرام باشا في ديار بكر(1565-1573): منظر عام للواجهة الشمالية يظهر الرواق المزدوج أمام قاعة الصلاة [مصدر الصورة: © 2018 ربى قاسمو]
الشكل 37: جامع بهرام باشا في ديار بكر (1565-1573): الرواق الداخلي والواجهة الشمالية لقاعة الصلاة [مصدر الصورة: © 2018 ربى قاسمو]
الشكل 38: جامع بهرام باشا في ديار بكر (1565-1573): قاعة الصلاة وأواوينها العميقة المزودة بالمحاريب [مصدر الصورة: © 2018 ربى قاسمو]
الشكل 39: جامع بهرام باشا في ديار بكر (1565-1573): بلاطات القاشاني الزخرفية داخل قاعة الصلاة [مصدر الصورة: © 2018 ربى قاسمو]
الشكل 40: جامع محمد سكوللو باشا في باياس (1567-1574) [مصدر الصورة: © 2018 ربى قاسمو]

الحواشي

[18] واتنبوغ، صورة مدينة عثمانية، 234-237 ، نجيب أوغلو، عصر سنان، 475.

[19] لمزيد من المعلومات حول المنشآت السابقة الموجودة في الموقع، انظر ابن الحنبلي، درّ الحبب، 2: 1 ، 263-264 ، واتنبوغ، صورة مدينة عثمانية، 79-80 ، نجيب أوغلو، عصر سنان، 476.

[20] واتنبوغ، صورة مدينة عثمانية، 79-80.

[21] لمزيد من التفاصيل حول أوجه التشابه هذه، انظر: نجيب أوغلو، عصر سنان، 227-228 ، 453-455 ، و 466-469.