لمحة تاريخية

[مصدر الصورة: © جان-كلود دافيد]
لطالما كانت حلب مركزاً مهماً للتجارة على مر العصور نظراً لموقعها المفضل على طرق التجارة الإقليمية والعابرة للأقاليم. تقع المدينة بالقرب من "البوّابة السورية"، المدخل الرئيسي لبلاد الشام من الأناضول، وكذلك في منتصف الطريق تقريباً بين البحر الأبيض المتوسط ونهرالفرات. تمتلك المدينة تلّاَ طبيعياً يعتبر مكاناً مثالياً للتحصين (أكروبول أو المدينة العالية)، ونهراً صغيرأً هو نهر قُوَيْق، الذي يغذّي منطقة الاستيطان وحدائقها بالمياه العذبة.
تتطلب التجارة بنية تحتيّة عمرانية معينّة لكي تزدهر. لايزال شكل هذه المنشآت المرتبطة بالتجارة ووظيفتها في الأزمنة السابقة غير معروف إلى حد كبير، لأنه لم يتم اكتشافها والتنقيب عنها ودراستها بالتفصيل في أحيانٍ كثيرة. في العصور الوسطى، بدأت المعلومات تغدو مُتاحة بشكل أكبر. نحن قادرون على تحديد موقع منطقة سوق حلب المركزية حول الجامع الأموي والتي بقيت هناك منذ ذلك الحين. ومع ذلك، فما عدا المساجد والمدارس الدينية، لم يتم الحفاظ على أية مبانٍ تجارية من فترة ما قبل المماليك. ربما يرجع ذلك إلى كون بعض هذه المنشآت، مثل الأسواق، منشآت خشبية في القرن الثاني عشر،[1] ولم تكن حجريّة كما في الأزمنة اللاحقة. كانت الأسواق والخانات عادة في وسط حلب جزءاً من الأوقاف الإسلامية، وأسّسها غالباً الحكام أو أعضاء آخرون من طبقة النخبة. تم توثيق الخانات في وسط حلب من أواخر العصر المملوكي وما بعده فقط (مثل خان الصابون وخان خاير بك)، وكانت الأمثلة الأقدم موجودة في الضواحي فقط.
وفّرت الخانات أماكن لتخزين البضائع وأسواق للبيع بالجملة ولإقامة التجار الأجانب، وكذلك "الغرباء" بشكل عام، مثل القناصل الأوروبيين الذين بقوا بشكل مؤقت فقط في المدينة.[2] قد تتطلب الاحتياجات المختلفة خانات مختلفة. نحن نعلم على سبيل المثال أن التجار من أوروبا والتجار من الهند وبلاد فارس كانوا يترددون على مناطق مختلفة في المدينة.[3]

المؤسس

كان خان الجمرك جزءاً من وقف كبير، وربما كان من أضخم الأوقاف التي تم تاسيسها على الإطلاق. وُلِد مؤسسه، الصدر الأعظم صوقولّو محمد باشا، حوالي عام 1505 لعائلة صربية من الوجهاء الريفيين الصغار في البوسنة العثمانية. دخل الخدمة العثمانية من خلال نظام الدوشيرمه (ضريبة الغلمان)، حيث يتم جمع الأطفال من العائلات المسيحية - بشكل رئيسي من البلقان - للعمل كـ "عبيد'' في مناطق مختلفة من الدولة العثمانية، وخاصة في الوحدات الإنكشارية والقصر. دخل بعض أفراد عائلة صوقولّو الخدمة العثمانية بهذه الطريقة، ومن المؤكد أن محمد باشا كان الأبرز والأكثر نفوذاً. بعد تبوّئِهِ لعدد من المناصب المختلفة في الجيش والقصر، ميّز نفسه كقائد للقوات الروم إيليّة (الروملية) في حملة 1554 ضد بلاد فارس الصفوية. وفي عام 1565، تم تعيينه صدراً أعظم من قبل السلطان سليمان الأول "القانوني"، وهو المنصب الذي سيشغله لمدة 14 عاماً في خدمة ثلاثة سلاطين.[4] تتزامن فترته في منصبه كصدر أعظم مع فترة توطيد الإمبراطورية، لاسيما في الأقاليم التي فُتِحَت حديثاً، مثل بلاد الشام. أسس كبار البيروقراطيين وأفراد الأسرة الحاكمة أوقافاً لا تشمل المساجد والمؤسسات الدينية الأخرى فحسب، بل تشمل أسواقاً وخانات وما إلى ذلك لدعم التنمية الاقتصادية لهذه المناطق. تضمن الوقف الضخم لصوقولّو محمد باشا (الذي تأسس عام 1574) من عدد كبير من العناصر الحضرية والريفية في ولايات حلب ودمشق وطرابلس، وكذلك في أجزاء أخرى من الإمبراطورية. من بين تلك، يمكن أن نسلط الضوء على ثلاثة: الكلّيَة (في هذه الحالة مجمع يتكون من مسجد وخان وحمّام) ورصيف للتخزين (أسكلة) في بَيَاس، وخان الإفرنج في صيدا وخان الجمرك في حلب.[5] تُظهر هذه الأمثلة الثلاثة بوضوح هدفاً واحداً لهذا الوقف: بناء البنية التحتية لدعم وتطوير التجارة على المدى البعيد. ساعد ذلك في جعل بلاد الشام ولاسيما مدينة حلب، عقدة مهمة في شبكات التجارة العالمية.