الإطار التاريخي الاجتماعي والعمراني

بقلم شتيفان كنوست

[مصدر الصورة: © 1990 جان-كلود دافيد]

الضاحية الشمالية

بدأت الضاحية الشمالية لحلب المعروفة بـ “خارج باب النصر” بالازدهار في أواخر العصر المملوكي (من القرن 9 حتى أوائل القرن 10هـ /القرن 15 حتى أوائل القرن 16م) واستمرت بالازدهار في القرون الأولى من الحكم العثماني (من القرن 10هـ / 16م). في أواخر العصر المملوكي، كان الجزء الغربي منها والمسمى "الجديدة" موطناً لمعظم سكان المدينة المسيحيين وكنائسهم، حيث شهدت بعض هذه الكنائس أنشطة بناء وإعادة إعمار كبيرة خلال النصف الثاني من القرن 9هـ / 15م. تم إنجاز مشاريع البنية التحتية الهامة في العقود الأخيرة من الحكم المملوكي، ولاسيما أنبوب المياه الذي يربط الضاحية الشمالية بمزود حلب المائي (قناة حلب). على طول أنبوب المياه الجديد، يمكن ملاحظة العديد من أنشطة البناء التي تشمل المساجد والنوافير العامة (القساطل) منذ عام 895هـ / 1490م تقريباً.

حلب المسيحية

ليس واضحاً تماماً متى بدأت نسبة مسيحيو حلب المقيمين في الأحياء الشمالية بالإزدياد "خارج أسوار المدينة". كانت تعيش الغالبية العظمى من الطوائف المسيحية خلال الفترة العثمانية في هذا الجزء من مدينة حلب والذي امتد من حي الجديدة مع كنائسه في الغرب إلى الشارع الشمالي الرئيسي شرقاً والذي يبدأ من باب الحديد، البوابة الشمالية الشرقية للمدينة المسورة. من الممكن أن يكون حي الجديدة (ما يعرف بالحي الغربي) قد حصل على دعم خلال تطوره في القرن 9هـ / 15م، حيث يمكننا تتبع آثار أساسات الكنائس المسيحية في هذه الفترة. وعادة يسمى على مركز هذا المربع السكني "ساحة الكنائس"، ولربما يعود سبب التسمية لتموضع الكنائس القديمة - بهياكلها المتواضعة - حول هذه الساحة.

يمكن للمرء أن يتساءل عما إذا كانت هذه الحالة هي نتاج تنمية حضرية عفوية أو (على الأرجح) مشروع حضري جيد التخطيط: بعد عقود قليلة تلت الفتح العثماني في 922هـ / 1516م، خضعت أجزاء من الجديدة وزقاق الأربعين المجاور لها لخطة منظمة مركزية، اعتمدت على نمط الشوراع المنتظمة.[1] لسوء الحظ، لا تخبرنا المصادر المكتوبة بأي شيء عن حيثيات الموضوع بشكل دقيق، لكن حقيقة أن تشييد الكنائس كان على أرض طابع لمالك واحد فقط ألا وهو الوقف الخيري لمدرسة الحلوية هو أحد الدلالات على ذلك (راجع الجامع الأموي). كان يوجد من بين ممتلكات وقف المدرسة أرض واسعة مكونة من أحياء بأكملها في الضواحي الشمالية الغربية وأراض أخرى خارج هذه الأحياء، بالإضافة إلى أراض أخرى.[2] تلقت المدرسة مبالغ مالية مقابل استئجار الأراضي من مالكي المباني والأوقاف الأخرى في تلك المنطقة. على سبيل المثال، أدرج في حساب وقف الطائفة المسيحية المارونية في عام 1219هـ / 1804-05م، 14 قرشاً مستحقاً لوقف المدرسة الحلوية ودفع مجتمع السريان سبعة قروش لشموع هذه المدرسة[3]. دفع وقف إبشير مصطفى باشا بنفس القدر إيجار الأرض إلى الحلوية، أي ستة قروش في عام 1222هـ / 1807–08م[4]. 

وقف إبشير مصطفى باشا، مدخل المسجد [مصدر الصورة: © 2007 شتيفان كنوست]

وقف إبشير مصطفى باشا

وقف إبشير مصطفى باشا المقهى [مصدر الصورة: © 1994 ميشائيل ماينيكة]

إن التطورات التي سبق ذكرها أدت إلى تنمية الضاحية الشمالية، ومهدت الطريق للتدخل الوحيد الأكثر أهمية في بنيتها التحتية الحضرية في القرن 11هـ / 17م: وقف ابشير مصطفى باشا الذي حكم حلب في عام 1062هـ / 1652م. إن حكم تلك الولاية المرموقة كان خطوة مهمة في مسيرته المهنية، مما أدى في النهاية إلى ترشيحه كوزير أكبر (الصدر الأعظم)، بالإضافة لطلبه يد ابنة السلطان إبراهيم أثناء وجوده في حلب. بالرغم من ذلك، تم إعدامه بعد فترة وجيزة من وصوله إلى العاصمة اسطنبول، ويرجح ذلك لتورطه مع فصائل المتمردين في الأناضول.

شملت أوقافه، المسجلة عام 1063هـ / 1653م، ترميم الخانات في قرية خان طومان والتي تبعد بضعة كيلومترات جنوب حلب وبناء مجمع المباني الضخم هذا في حلب [5]. كانت عائدات الأوقاف تهدف إلى دعم الحرمين الشريفين مكة المكرمة والمدينة المنورة في شبه الجزيرة العربية، مع دفعات مهمة للعديد من الخدمات الدينية لعدد من الأفراد وخاصة في المدينة المنورة.

بصفته ناظراً (مفتشاً) للوقف، حصل شيخ الإسلام، أعلى سلطة دينية في الدولة العثمانية على حصة هامة من هذه العائدات (50 قطعة ذهبية كما هو منصوص عليه في وثيقة الوقفية)[6]. كما عين المتولي نقيب الأشراف (الأشراف أي يعود أصلهم للنبي محمد) في حلب، حيث يتم اختياره عادة من بين الأعيان (النبلاء المحليين) [7]. وهكذا قام وقف إبشير مصطفى باشا بربط المستويات الإمبراطورية والمحلية بالإضافة لدعم الحرمين الشريفين حيث يعتبر هذا العمل تقياً وورعاً.

إن مشروع إبشير مصطفى باشا في حلب هو عبارة عن مجمع يضم خان (دار تجارية داخلية)، وفراغات تشبه الخانات تحوي على ورشات عمل (تسمى قيسارية)، ومحلات ... إلخ. كل هذا عزز دور الضاحية الشمالية كمركز اقتصادي ثان في حلب وأتاحت العديد من الفرص لصناعة النسيج، لاسيما إنشاء النول في القيسارية.

على الرغم من احتوائها على عناصر فردية من الكلية العثمانية التقليدية (الكلية مصطلح يطلق على مجمع معماري – راجع نص الخسروية)، فإن التصميم الداخلي ككتلة -  متضامة تحوي المسجد والمقهى كان مختلفاً تماماً. بمقارنتها بالموقع البارز والمركزي للمسجد في الكلية العثمانية، نجد أن موقع المسجد هنا هو أحد أوجه الاختلاف حيث نرى أنه يحتل موقعاً جانبياً في الزاوية الجنوبية الشرقية للمجمع وبالكاد يكون مرئي – لعدم وجود مئذنة طويلة وقبة مركزية [8]. يشغل المسجد حوالي 5٪ فقط من المساحة الإجمالية للوقف، كما يخبرنا حساب الوقف من عام 1222هـ / 1807- 1808م بأنه لم يستهلك سوى 14٪ من إيرادات الوقف [9].

ثقافة المقاهي

شكل المهقى الضخم الفاخر في الجانب الجنوبي الغربي من مجمع إبشير مصطفى باشا، سوية مع الحمام في وقف بهرام باشا على الجانب الآخر من الزقاق، مكاناً عاماً ممتازاً لهذا الجزء من المدينة المشتركة بين القاطنين المسيحيين والمسلمين على حد سواء. يخبرنا الطبيب الاسكتلندي راسل أن جميع أطياف المجتمع في منتصف القرن الثامن عشر كانت تجتمع داخل المجمع وترتاد المقاهي، باستثناء طبقة النبلاء (والذين كان لديهم غرف لشرب القهوة في منازلهم الواسعة) [10]. بخلاف مقهى الوقف، الذي كان رواده من الرجال فقط، كان حمام بهرام باشا أيضاً مكاناً عاماً للنساء على الرغم من عدم وجود اختلاط ديني (حيث يتم حجزه في بعض أيام الأسبوع للنساء المسيحيات وبعض الأيام للمسلمات)[11].

تم اقتراح العديد من النشاطات الترفيهية لرواد المقهى كالفرق الموسيقية المؤلفة من الآلات التقليدية كالعود والربابة والناي والدف، التي تتجول خلال ساعات المساء من مقهى إلى آخر تعزف لزوار المقهى. بالإضافة للحكواتي الذي يقص على جمهوره القصص كقصة الشاعر والمحارب الجاهلي عنترة بن شداد وحبه لابنة عمه عبلة، أو القصة الشعبية لمغامرات ومعارك السلطان المملوكي الظاهر بيبرس [12] (ت 676 هـ / 1277 م)، وغيرها.

وأخيراً فإن شخصيات مسرحية الظل بشخصياتها الدائمة مثل كراكوز ونظيره عيواظ متعت زوار المقهى. حيث كانت السيناريوهات مفتوحة للارتجال وتضمنت بعض التعليقات حول الأحداث الهامة والأحوال السياسية المحلية، وكما في وصف ألكسندر وباتريك راسل (كلاهما يعملان كأطباء في مقر حلب لشركة المشرق البريطانية): "في بداية الحرب الروسية عام 1768، صورت انجازات الانكشاريون الحلبيون، الذين عادوا من الحرب مهزومين، بسخرية على المسرح. ولم يكن لكراكوز أن يفوت فرصة الاستهزاء بشجاعتهم". حتى قضاة المدينة  لم ينجوا من الاستهزاء بهم على المسرح [13]

من قائمة جرد للموجودات عام 1795 نلاحظ وجود مقاعد وحوالي 120 مقعد خشبي صغير، بالإضافة إلى عدد من المباخر والسجاد والفوانيس وغيرها من المعدات التي كانت متوفرة للعديد من العملاء في مقهى قصر إبشير مصطفى باشا. كما يشير العدد القليل من أكواب القهوة (30 فقط) إلى أن الكؤوس يتم تمريرها من شخص إلى آخر.

لربما تم إدخال ثقافة تقديم القهوة كمشروب في سورية وبلاد الشام حوالي عام 935هـ / 1530م؛ حيث نلاحظ استهلاكه على نطاق واسع في حلب بعد مرور أكثر من قرن. بالرغم من ذلك، فإن استهلاك القهوة بالإضافة للنشاطات الترفيهية المقترحة داخل المقاهي كانت تثير شكوك السلطات الدينية والمدنية كثيراً. تم تحديد المقاهي كأماكن "السلوك السيء" واختلاط فئات مختلفة من الناس، لهذا السبب تم إجراء عدة محاولات في القرنين 10هـ / 16 و17 م لإغلاق المقاهي وحظر استهلاك القهوة. عندما أصبحت المقاهي أماكن تداول الصحف والتعبير عن الرأي في القرن 13هـ / 19م، أبقت السلطات عليها تحت رقابة صارمة لمرة أخرى [14]. على الرغم من كل هذه الإجراءات، كان من الصعب قمع استهلاك القهوة والمقهى كمكان اجتماعي.

استمر وقف إبشير مصطفى باشا في لعب دور هام في اقتصاد الضاحية الشمالية من حلب حتى القرن 20 على الرغم من أن التغيير الهيكلي أدى إلى استبدال صناعة النسيج تدريجياً بأعمال أخرى.

الحواشي

[1] ريموند، المدن العربية الكبرى،217

[2]   الغزي، نهر الدهب، 174:2

[3]   دمشق، مركز الوثائق التاريخية: أرشيف المحكمة، حلب، 152-I/152، الوثائق بتاريخ 1222/1807-08 

[4] كنوست، التنظيم الديني، 49

[5] واتنبوغ، صورة لمدينة عثمانية، 155-56 [6] الغزي، نهر الدهب، 403:2

[7] الغزي، نهر الدهب، 403:2

[8] واتنبوغ، صورة لمدينة عثمانية، 167

[9] دافيد، وقف إبشير باشا، 28، 44; دمشق، مركز الوثائق التاريخية: أرشيف المحكمة، حلب، 152-I/152، الوثائق بتاريخ 1222/1807-08

[10] راسل، التاريخ الطبيعي، 146:1، دافيد، سويقة علي، 82

[11] كنوست، مجتمع الضاحية الشمالية، 128

[12] النسخة الدمشقية من هذه الحكاية منشورة من قبل جورج بوحس وكاتيا زخريا (سيرة الملك الظاهر بيبرس)

[13] راسل، التاريخ الطبيعي، 148:1

[14] تشوشيرير، „القهوة والمقاهي“