تاريخ الصوفيّة في حلب

[مصدر الصورة: © 1987 جان-كلود دافيد]

مقدمة

إن المشي بعد ظهر يوم الجمعة عبر الأجزاء السكنية في حي الجلوم، بعيدًا عن ضجيج حركة المرور، يمكِّن المرء عند الاقتراب من الزاوية الهلالية من سماع الإنشاد الإيقاعي للذِكْر الذي يملأ الأزقة الخالية المحيطة بالزاوية.
تقع الزاوية الهلالية في وسط حي الجلوم، وكانت وماتزال إحدى أهم مؤسسات الإسلام الصوفي في حلب وأكثرها إثارة للاهتمام.  فبالإضافة للمساجد، فإن هذه المؤسسات - التي تدعى في حلب بالزاوية أو التكيّة – قد وفرت للناس خدمات دينية خاصة. 

ربما كان البديل الروحاني للتقوى في الإسلام (الصوفية، وبالعربية تصوف) موجوداً منذ زمن النبي. شهدت الأشكال المبكرة من التصوف الإسلامي وجود شيوخ متجولين وآخرين ممن جمعوا عددًا من المريدين في مكان معين. انتشر في حلب خلال القرن الحادي عشر الميلادي شكل من التصوف الأكثر تنظيماً، كما في مدن سوريا الأخرى، حول منشأة تدعى الخانقاه. ربما تأسست الخانقاه في خراسان وبلاد ما وراء النهر في القرن العاشر الميلادي، وانتشرت غربًا مع توسع الإمبراطورية السلجوقية خلال القرن الحادي عشر وتكاملت كمؤسسة، حيث يمكن للشيخ أن يجمع مريديه. وفي بعض الحالات، تم تأسيس بعض الخانقاهات من قبل الحكام المحليين كأوقاف (وقف ديني) من أجل ضمان استمرارها على المدى البعيد. تابع نور الدين الزنكي والأيوبيون هذه السياسة في سوريا [1]. ومن الأمثلة على ذلك في حلب خانقاه شهاب الدين حفص عمر السهروردي (توفي 632هـ/1234م) الذي عاش فيها [2] والأمير جمال التِنبي (توفي 639هـ/ 1241-1242م) الذي أسس خانقاه في منزله في حي العقبة وتم دفنه هناك [3]. وهكذا، فإن إنشاء مؤسسات الإسلام الصوفي هذه في المراكز الحضرية في سوريا والعراق كان أحد مظاهر الدعم المؤسسي للإسلام السُنّي الذي كان مدعوماً من الحكام والذي يشار إليه عموماً  "النهضة السنية" [4]. أثناء ذلك الوقت، تطورت الطرق الصوفية وانتشرت في جميع أنحاء العالم الإسلامي مما أعطى الصوفية أساساً مؤسساتياً أقوى. 

فيما بعد، ربما في العصر المملوكي، استبدلت تسمية "الخانقاه" بـ "الزاوية"، والتي كانت تعني في الأصل "زاوية المبنى". وقد استخدمت لتسمية حجيرات الرهبان المسيحيين، وكذلك المساجد الصغيرة أو غرف الصلاة.  بالإضافة إلى الزاوية، انتشر نوع ثان من المؤسسات الصوفية في حلب: التكيّة. على نطاق أوسع نسبياً، مع وجود أوقاف أكبر من الزاوية، ترتبط التكية عادةً بمؤسسة صوفية لها صلات مباشرة بالسلطات العثمانية أو بفرقة تركية [5]. لدى معظم المؤسسات التي تدعى التكايا في حلب مساحة كافية لاستيعاب مجتمع الصوفيين الذين عاشوا هناك بشكل دائم. الأمثلة الثلاثة الأبرز في حلب العثمانية هي التكية المولوية، تكيّة الشيخ أبو بكر وتكيّة بابا بيرم. 

في الأزمنة العثمانية التي تعد وثائقها غنية إلى حد ما، نجد عدداً مهماً من المؤسسات الصوفية الموزعة ضمن كامل النسيج الحضري في حلب، أحيانًا على مقربة من المساجد، وأحيانًا كمبانٍ مستقلة، وبالتالي تشكل منشأة دينية موازية.

الحواشي

[1]  الشابي، "الخانقاه"

[2]  تريمينغهام، الفرق الصوفية، 34

[3]  الطبّاخ، إعلام 4 : 377

[4] أليسيف، نور الدين 3 : 763

[5]  كلاير، "التكيّة