تحصينات القلعة في العهدين الزنكي والأيوبي

[مصدر الصورة: © جان-كلود دافيد]

اعتُبِرَت القلعة تحت الحكم الزنكي وتحديداً تحت حكم عماد الدين (المتوفّى في عام 1146) وابنه نور الدين محمود (المتوفّى عام 1174) حصينةً.

سُجن النبيل الصليبي المأسور رينو دي شاتيون لمدة ١٥ عاماً في القلعة قبل أن يتمّ العفو عنه من قبل الملك الصالح إسماعيل (المتوفّى عام 1181) ابن نور الدين. كما كان بلدوين الثاني ملك القدس سجيناً لمدّة سنتين في القلعة أيضاً وفيها توفّي جوسلين الثاني كونت الرها بعد تسعة أعوام من السجن.

إن أعمال الإنشاء التي بدأت بها سلالة الزنكيين معروفة بشكل جزئي فقط. فقد قاموا ببناء "قصر الذهب" في القلعة نفسها بالإضافة إلى "الميدان الأخضر" (دُعي بالأخضر لأن ميدان ركوب الخيل كان مغطّى بالعشب). قام نور الدين محمود والذي كان يدرك أهمية وجود أسوار حصينة للمدينة بتجديد أسوار دمشق وأيضاً أسوار حلب. وبين جدارين متجاورين عند مدخل القلعة قام نور الدين ببناء درج طويل ومنحدر خاص بالخيّالة حيث كان هذا الدرج محاطاً من جانبيه بسورين مرتفعين بقدرٍ يسمح للحاكم بإلقاء النظر من فوقهما عند ركوبه للخيل.

رسّخت حلب نفسها كمركز تجاري تحت حكم الزنكيين. وعندما خلفهم الأيوبيون قام السلطان صلاح الدين (المتوفّى عام 1193) بتولية ابنه الملك الظاهر غازي (المتوفّى عام 1216) على حلب. كان الظاهر غازي قائداً عسكرياً متمرّساً وبنّاءً خبيراً بالتحصينات. ورداً على  التهديد الصليبي المستمرّ قام بتحصين القلعة وفقاً لأحدث تقنيات التحصين المعروفة آنذاك.

أدّى القتال الدائر منذ مائة عام ضد الصليبيين إلى سباق للتسلح نتجت عنه ابتكارات جديدة في الأسلحة المستخدمة مثل استعمال منجنيقات ثقيلة وقوية جدّاً (الشكل 2). وفي القرن الثاني عشر كانت هذه المنجنيقات جزءاً من معدّات أيّ حصار ناجح. حيث كانت تقوم بإطلاق كرات حجرية زنتها (50ـ 300 كغ) (الشكل 3) من نفس الموقع لتصيب نفس الموضع في الجدار مما يؤدّي إلى إلى خرق الأسوار السميكة. كان التدبير الوقائي الوحيد هو تقوية الأسوار وبناء الخنادق والحواجز لإبقاء المهاجمين على مسافة من الأسوار تكفي لجعل منجنيقاتهم الثقيلة غير فعّالة. بدأ المدافعون أنفسهم باستخدام المنجنيقات الثقيلة في القرن الثالث عشر أيضاً. واقتضى ذلك إنشاء أبراج ضخمة على أسوار القلاع والمدن ذات منصّات قادرة على حمل المنجنيقات. [1]

الشكل 2: المنجنيق أثناء العمل حوالي عام 1240 [مصدر الصورة: © نيويورك، مكتبة بيربونت مورغان .مجلد 23 (التفاصيل) من بروان 2006 ص 50]
الشكل 3: حلب، القلعة من الداخل: ذخيرة للكتلة المخزنة في منطقة البوابة العليا [مصدر الصورة: © ميخائيل براونه 2010]

بسبب موقعها المرتفع فإن أسوار قلعة حلب لم تكن مهددة بالقصف بواسطة المنجنيقات الثقيلة، إلّا أنّ الظاهر غازي قام مع ذلك بتقوية الأسوار وكذلك إصلاح الأبراج وتكبير بعضها لتصبح قادرة على حمل المنجنيقات الثقيلة. كما قام بتسوية جوانب التلّ بتغطيتها بشكلٍ خاص في منطقة المدخل ببلاطات حجرية ضخمة أو ما يدعى أيضاً بحجارة رصف المنحدرات والتي تمنع المهاجمين من التسلق والوصول إلى الأبراج. ووفقاً لابن شدّاد فقد قام، أي الظاهر غازي، أيضاً بفتح مدخل صغير إلى الشرق من بوّابة القلعة يمكن الوصول إليه من القصر وكان هذا الباب مخصّصاً له وحده للنزول إلى دار العدل في المدينة للبتّ في الأحكام القضائية. تمّ العثور على هذا المدخل بشكلٍ غير متوقّع حوالي عام 1990 عند ترميم البرج المملوكي المضلّع من قبل صندوق الآغا خان للثقافة. قام الظاهر غازي أيضاً ببناء البرج الشمالي (الشكل 4) وهو برجٍ مستطيل (11 × 17 م) في أسفل سفح التلّ تقريباً والمبني ربما على أساسات الركن الشمالي لسور المدينة الأيوبي. هذا الصرح الدفاعي جدير بالذكر نظراً لجدرانه السميكة من جوانبه الثلاثة المكشوفة والمصممة لتكون منيعةٌ أمام قذائف المنجنيقات الثقيلة والجدار الرابع الأقلّ سماكة في جهة سفح التلّ. احتوى هذا البرج المكون من ثلاثة طوابق على منجنيقات ثقيلة ومغطاة بعقد اسطواني مستقر. ينتهي الطابق الأعلى بمنصّة دفاعية مسطّحة يمكن نصب المنجنيقات عليها مع ذخيرتها الثقيلة. جميع الطوابق مزوّدةٌ بكوى عميقة يتمكن الرماة من إطلاق السهام من خلالها: على الجوانب الطويلة المواجهة لساحة القتال توجد ثلاث كوى رماية وعلى الجانبين الضيّقين كوّتان فقط. يُعدّ البرج الشمالي مثالاً نموذجياً على التحصينات الأيوبية ويمكن العثور على أشكالٍ مشابهةٍ له في عدّة قلاعٍ سوريّة.

الشكل 4: حلب، القلعة من الخارج: البرج الشمالي، منظر علوي [مصدر الصورة: © 2010 ميخائيل براونه]

كان على الظاهر غازي أن يتغلب على مشكة أكثر صعوبة وهي إمداد القلعة بالمياه. يبلغ معدّل هطول الأمطار السنوي في حلب 420 مم فقط (متوسّط الفترة بين 1918-2018)، وهذه الكمّية التي كانت تجمع في الصهاريج لم تكن كافية أبداً لسد احتياجات السكان من مياه الشرب (لكل شخص 2 لتر في اليوم). كانت المدينة تتزوّد بالمياه من قناة حيلان - حلب على الأرجح وهي قناة محفورة تحت الأرض من عهود ما قبل الإسلام. كانت مياه الشرب من هذا المصدر ذات نوعية ممتازة لكنها نادراً ما كانت تكفي لإرواء السكّان خلال أشهر الصيف. تمّت إضافة مياه نهر قويق إلى مصادر المدينة من المياه في فترة الحكم المملوكي. لذلك بقيت القلعة تزود بمياه قليلة من مياه الأمطار التي كانت تُجمع في الصهاريج من الأسطح حتى قيام الظاهر غازي بأعمال الإنشاء (الشكل 5). استخدم الظاهر غازي أسطح المستودعات ومخازن الحبوب المشيّدة حديثاً في قصره لجمع مياه الأمطار في صهريج ضخم كان عليه أن يبنيه خصّيصاً لذلك. بالإضافة إلى ذلك قام بحفر بئر مزوّدة بدرج حلزوني (الشكل 6) يدور حول محور مفتوح مربّع حيث تؤدّي 225 درجة إلى عمق 50 متراً. إن عمق البئر غير معروف ولكن تمت إعادة ملئه بشكل جزئي (الشكل 7) وربما كان يغذّى بمياه فرعٍ لقناة حيلان. كان الماء يُسحَب من هذه البئر العميقة إلى الأعلى في القرن الثامن عشر[2]  باستخدام نظام رفعٍ يعمل بواسطة قوّة حصان، حيث يعمل هذا النظام على شكل سلسلة متواصلة من الدِلاء ترفع المياه من البئر (الساقية)، وهي الإمكانية الوحيدة لسحب الماء ميكانيكياً من أعماق كبيرة. يمكن مشاهدة هذه التقنية الناجعة في العديد من المقرّات الأموية في البادية [3]. ربما كانت توجد طاحونة هوائية في القلعة إلى جوار البئر العميقة مباشرةً والتي كانت تُستخدم بشكلٍ أساسيٍ لرفع الماء إلى السطح.

الشكل 5: حلب ، القلعة من الداخل: أنابيب طينية مغمورة لتغذية المياه في الصهاريج [مصدر الصورة: ©2010 ميخائيل براونه]
الشكل 6: حلب، القلعة من الداخل: دوامة الدرج المربعة في البئر [مصدر الصورة: ©2010 ميخائيل براونه]
الشكل7: حلب، القلعة من الداخل: مدخل البئر [مصدر الصورة: ©2010 ميخائيل براونه]

قام الظاهر غازي بتنفيذ تدبير هندسي مائي آخر حيث قام بتعميق الخندق عند سفح التلّ بحيث يمكن ملؤه من جهة الشمال بالمياه من نهر قويق. ولكن بسبب هذا الحفر كان لابدّ من نقل مدخل القلعة إلى مكان آخر. قام الظاهر غازي بتشييد برج بوابة سفلي مستطيل يؤدّي منه جسرٌ محمول على ثمانية عقود ومائل قليلاً نحو الأعلى حتى يصل إلى برج البوابة العلوي والذي شكّل مدخل القلعة. إذا استطاع المهاجم عبور الجسر بالرغم من إطلاق ستة سقاطات (شكلٌ من أشكال الشرفات الدفاعية التي بلغت حدّ الكمال في العهد الأيوبي) فسيجد نفسه أمام باب ذي مصراعين مصنوع من حديد الصب (الشكل 8). وعندما يفتح هذا الباب كان عليه أن يمرّ عبر ممرٍ مظلمٍ تقريباً طوله 70 م وذي مسار منكسر خمس مرّات ومحميّ بواسطة شقوق الرماية والمحاريب المظلمة، ومن ثم كان عليه أن يجتاز بابين حديديين إضافيين وأن يعبر صالة طولها 23 م قبل أن يصل إلى ضوء النهار (الشكل 9). على الرغم من أنّ المداخل المنكسرة كانت معروفةً كجزءٍ من التقنيات الدفاعية القياسية في الشرق القديم في عصر البرونز الأوسط (2180- 1550  قبل الميلاد).[4] إلّا أنّ هذا المدخل والذي كان محمياً بشكل جيد من الأعلى بواسطة شقوق رماية قد مثّل تحفةً في التحصينات الأيوبية.

يؤدي الطريق الرئيسي من برج البوابة العلوي إلى المسجد الصغير وبعد ذلك إلى المسجد الكبير. قام الملك الظاهر غازي بتغطية هذا الطريق بسقف معقود ليتمكّن قاطنو القلعة من البقاء في الظلّ والتمتع بالهواء المبرّد بشكلٍ مماثلٍ لسوق المْدينة الشهير. وفقاً للروايات فإن قلاع العصور الوسطى تزود بعددٍ من أنفاق الربط السرية ومخارج الطوارئ. في الواقع لقد كانت هناك ثلاثة أنفاق في قلعة حلب. ويمكن الوصول إليها عبر الدرج الحلزوني في البئر وتقود نحو الشمال. يمرّ واحدٌ منها مباشرةً أسفل البرج الشمالي الموصوف آنفاً والواقع أسفل سفح التلّ. يؤدي النفقان الآخران إلى خارج القلعة[5] لكنهما يبقيان داخل حدود سور المدينة الأيوبي وقد تعرضا للانهيار (2010).

الشكل 8: حلب، القلعة من الخارج: بوابة مدخل من الحديد الكامل [مصدر الصورة: © 2010 ميخائيل براونه ]
الشكل 9: حلب، القلعة، خطة الوصول الأرضية [مصدر الصورة: © حجار 2000 ، ص .10 مع الإضافات الخاصة]
الشكل 10: حلب، القلعة من الخارج، منظر للقلعة من الشمال الشرقي [مصدر الصورة: © 2010 ميخائيل براونه]

ولكن السور الأيوبي النموذجي (من طبقتين) والمبني من الحجارة المشغولة الملساء والمملوءة بعناية بحشوة من الملاط والحصى لم يستطع مقاومة الزلازل القويّة التي ضربت سوريا في العصور الوسطى بدون أضرار. ويتجلى ذلك في الشقوق العميقة والإنزياح ضمن السور. في عام 1225، انهارت عشرة أبراج إلى الشرق من المدخل (من ضمن أكثر من 40 برجاً ما زالت قائمة حتى اليوم) (الشكل 10) وهي أبراجٌ مستطيلةٌ وصغيرةٌ نسبياً (بعرض 5- 6 م تبرز بمقدار 2 م عن مستوى السور) والتي تعود إمّا إلى الفترة البيزنطية (القرن التاسع) أو الفترة الحمدانية (القرن العاشر). ربّما كانت طبيعة الأرض غير المستقرّة هي المسؤولة عن هذا الانهيار، وما يثير الدهشة أنّ الأبراج الجديدة قد أُعيد بناؤها على أساساتٍ خشبيةٍ والسبب المحتمل لذلك هو الرغبة بالاحتفاظ بخط السور فوق حافة التل مباشرة بدون التراجع إلى الخلف. وقد كلف ذلك المدافعين غالياً عندما قام القائد المغولي هولاكو في عام 1260 بإحراق الأساسات الخشبية مما أدّى إلى انهيار الأبراج وإحداث ثغرة في السور استغلّها المغول ليخترقوا خطّ الدفاع في الأماكن السابقة للأبراج. وضع ما يسمّى بالاجتياح المغولي لأوربا النهاية لسلالة الأيوبيين. نجح القائد المملوكي بيبرس بعدها بمساعدة ظروف غير متوقعة في هزيمة المغول وطردهم من سوريا.