لمحة تاريخية

أُنشئت المدارس الأولى في حلب في منتصف القرن 6 هـ/ 12 م ضمن سياق "النهضة السنية" لتعزيز العقيدة والدراسات القانونية السنية. استمرت بعض تلك المدارس الأولى في حلب، كالمدرسة العصرونية في حي الفرافرة، حتى القرن التاسع عشر، مما يثبت أن هذه المؤسسات مثل بعض الجوامع من نفس الفترة الزمنية، كانت مدعومة وممولة بشكل دائم من مؤسسة الوقف وبالتالي يمكنها الاستمرار في الوجود لعدة قرون. ومع ذلك توقفت وظيفة المدرسة (التدريس) في بعض الحالات، وبقيت وظيفتها كجامع حي فقط، ومثال على ذلك المدرسة الطرنطائية خارج باب النيرب.[1]

شهد العصرين الزنكي والأيوبي (القرنين 12- 13 م) على تأسيس عدد كبير نسبياً من مؤسسات التعليم العالي، إلا أن العصور اللاحقة لم تصل إلى هذا العدد من المدارس، وقام الرعاة المماليك والعثمانيون بوقف المدارس، لكنهم فضلوا بشكل مؤكد بناء الجوامع.

كانت معظم المدارس التي مازالت قائمة وموقوفة في حلب في العهد العثماني أصغر من المدارس المملوكية، وبشكل خاص الأيوبية (راجع مدرسة الفردوس). فقط اثنتان من تلك المدارس وهما المدرسة المنصورية والمدرسة التي أسسها محمد آغا دفتر أميني في منزله في حي القصيلة كانتا موجودتان لعقود قليلة.[2]

المؤسس وأوقاف المدرسة

يعود تأسيس المدرسة الأحمدية (الشكل 1) إلى أحمد أفندي بن طه أفندي بن مصطفى أفندي، المعروف باسم "طه زاده"، (الشكل 2) والذي ولد في حلب حوالي عام 1110/ 1698-99. كانت عائلة طه زاده على الأقل منذ نهاية القرن السابع عشر – عندما ظهرت لأول مرة في المصارد- من أهم عائلات حلب المنخرطة المجال الديني و "السياسي". كان مصطفى بن طه جلبي جد أحمد أفندي نقيب أشراف المدينة أنذاك (ممثل عن سلالة النبي)، وأحد قادتها "رؤسائها" كما يطلق عليه المؤرخ محبّي. وبما أن الأشراف في حلب كانوا مجموعة كبيرة وقوية، فإن هذا المنصب العظيم الذي يترأسه رجل قوي ومقتدر قد يكون مصحوباً بسلطة سياسية كبيرة.[3]

قام أحمد أفندي بتعيين نفسه نقيب الأشراف عام 1147. كانت عائلته أيضاً من بين العائلات المحلية القليلة التي تجاوزت أهميتها وتأثيرها منطقة حلب. شغل أحمد أفندي منصب قاضي القدس ربما حوالي عام 1159 / 1746-1747، وكذلك قضاة بغداد عام    1163 / 1750. بعد عودته إلى حلب عام 1165 / 1751-1752، بدأ ببناء مدرسته[4]. كان من المفترض أن تضم تلك المدرسة مجموعته الرائعة من الكتب التي تمكن من الحصول عليها ونسخها أثناء إقامته في القدس وبغداد[5].

يعتبر وقف أحمد طه زاده من أكبر ثلاثة أوقاف تأسست في حلب في القرن الثامن عشر، والوقفان الآخران: وقف التاجر الغني الحاج موسى الأميري عن المسجد الذي أسسه هو وعائلته[6]، ووقف المدرسة العثمانية[7]. جميع تلك الأوقاف تقع داخل سور المدينة. من بين تلك الأوقاف الثلاثة، كانت المدرسة الأحمدية هي الوحيدة التي تقع مباشرة على محور السوق المركزي، مثل ثلاثة من الأوقاف الأربعة الرئيسية في القرن السادس عشر (جامع العادلية وخان الجمرك وجامع البهرمية). بعد حوالي قرنين من الزمان، كان من المؤكد أنه كان من الصعب الحصول في وسط المدينة على قطع كبيرة من الأراضي اللازمة بما يكفي لبناء مدرسة مرموقة جديدة. من المؤكد أن الأسرة خططت لذلك لبعض الوقت؛ وعلى الأرجح أن والد أحمد وجده استحوذوا بالفعل على عقارات في تلك المنطقة.

من اللافت للنظر أن جزءاً كبيراً من ممتلكات الوقف يقع حول المدرسة، وعلى الأرجح ليس بعيداً عن المكان الذي تعيش فيه عائلة طه زاده. جاورت المدرسة خمس دور (مفردها دار) وأربعة دكاكين (مفردها دكان) كانت متاخمة للمدرسة في الشمال على محور السوق الرئيسي. على الجانب الآخر من زقاق السوق كان هناك مقهى (يسمى القهوة الجديدة)، وهو بالتساوي جزء من الوقف. توجد المزيد من أصول الوقف في أجزاء أخرى من المدينة، مثل المحلات التجارية في (بازسيستان) بالقرب من الجامع الأموي، ومخبز ومنزل (دار) في جب أسد الله. جزء مهم آخر من ممتلكات الوقف موجود في الضاحية الشمالية، كما هو الحال في العديد من أوقاف القرن الثامن عشر، لأن سوق العقارات بدا نشطاً ومربحاً إلى حد ما في ذلك الجزء من المدينة: مقهى في ساحة الجديدة وقيساريات وعدد من المحلات التجارية. كذلك تنتمي قيسارية ومقهى في سوق حي المشاطية في الضاحية الشمالية الشرقية إلى وقف المدرسة. ومن الممتلكات الأخرى أربع حدائق (بستان) أو أجزاء منها خارج حلب، ومصنع للصابون (مصبنة) في إدلب.[8]

أضاف الوقف الثاني والثالث لأحمد أفندي ممتلكات كبيرة إلى الوقف، معظمها في أحياء مختلفة من الضاحية الشمالية: مجموعة محلات وقيساريات (أو أجزاء منها)، ومقهى آخر ومصبغة حرير. واكتملت الصورة بحمام في قرية باب الله وبساتين خارج حلب وممتلكات في مدينة أنطاكيا.[9]

بالإضافة إلى الأوقاف الأولية التي أنشأها أحمد أفندي، استمر أخرون بوقف المدرسة وتوسيع أوقافها. في عام 1206/ 1792 قام ابن عم أحمد أفندي، سيد حاج طه أفندي بتأسيس وقفاً عائلياً كبيراً (16 مادة) ينص على دفع تكاليف التلاوة في المدرسة. أقامت ابنة عم وأخت أخرى اسمها شريفة عفيفة قادين وقفاً في نفس السنة لدار في حي كوجك كلاسة (في الضاحية الشمالية) من أجل التلاوة في المدرسة ولإمداد الحجاج في الحج بالمياه. كذلك قام عمر أفندي الحفاف، وهو ليس من عائلة طه زاده، والذي عاش في الجلوم وكان معروفاً كشاعر، بتأسيس وقفاً آخر في عام 1216/ 1802 وهو داراً لمنفعة ذريته، وبعد موتهم لصالح المدرسة[10]. يشير هذا المثال الأخير إلى أن المدرسة أصبحت موضوعاً جذاباً للجمعيات الخيرية الشعبية بعد عقود قليلة من تأسيسها.

يحتوي صك وقف أحمد أفندي على بعض الشروط المثيرة للاهتمام.  لقد خصص راتباً عالياً قدره 40 عثمانية[11] يومياً للمدرس الذي يجب أن يكون كردياً من منطقة شمال شرق الموصل. يشير هذا الراتب المرتفع بشكل غير اعتيادي إلى مكانة المنصب، وربما أيضاً إلى رغبة المؤسس في جذب العلماء المؤهلين. يكون المدرّس في نفس الوقت المشرف على جميع الأنشطة في المدرسة. ويقوم أحمد أفندي بتعيين مدرّساً آخراً للأحاديث النبوية، ويفضل أن يكون من أفراد العائلة، وكذلك مدرساً ثالثاً للمذهب الحنفي. كما أن هنالك عشرة رواتب بالتساوي لطلاب من أصل كردي، هي جزء من الوقف أيضاً، وكذلك عدد من الموظفين القائمين على إدارة المؤسسة وصيانتها. تشكل المكتبة جانباً مهماً أيضاً من جوانب الوقف، والتي من المحتمل أنها كانت الأهم في ذلك الوقت في حلب. يفتح أمين المكتبة المكتبة أيام الأحد والاثنين والأربعاء والخميس للطلاب وأي شخص مهتم آخر[12].

كانت المناطق الكردية في شمال بلاد ما بين النهرين تنتمي إلى المناطق النائية التقليدية لحلب خلال العهد العثماني؛ كانت المدينة السوق التجارية الرئيسية في المنطقة. قد تكون المواصفات الخاصة في الوقفية فيما يتعلق بدعم العلماء والطلاب الأكراد مرتبطة بمصالح عائلة طه زاده في المنطقة. يبدو أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وتأسيس الانتداب الفرنسي في سوريا، أصبح الوصول من المناطق الكردية صعباً، لذلك قرر مجلس الأوقاف في حلب أن تنسب الغرب الشاغرة في المدرسة والمخصصات إلى أي طالب فقير، حتى لا ينقطع الغرض الأساسي من المدرسة وهو التدريس.[13]

إلى جانب التدريس والمكتبة، كان هناك جانباً مهماً للوقفية وهو ذكرى الوالد المؤسس. ينبغي على المدرّس قراءة دلائل الخيرات[14] يوم الجمعة على قبر الأب، ويقرأ كل واحد من الطلاب العشرة جزءاً من القرآن كل يوم في ذلك المكان، بالإضافة إلى عشرين جزءاً من القرآن يقرأه عشرون قارئاً كل يوم في أي مكان بالمدرسة أو الضريح.[15] يربط الوقف الثالث لأحمد أفندي على وجه الخصوص المدرسة الأحمدية بمؤسسات أخرى داخل حلب وخارجها. هنالك مدفوعات للتلاوة ورواتب في مكة والمدينة والقدس. يتم رعاية عدد من الأنشطة في الجامع الأموي بحلب وخاصة خلال شهر رمضان والأعياد الإسلامية. تربط شبكة مهمة المدرسة بمؤسسات الإسلام الصوفي في حلب، وتتلقى تسعة تكايا مدفوعات للاحتفال بالخلوة والذكر كالتكية المولوية والزاوية الهلالية.[16]

الشكل 1: المدرسة الأحمدية، منظر عام من مئذنة جامع البهرمية [مصدر الصورة: © 2007 شتيفان فيبر]
الشكل 2: المدرسة الأحمدية، نقش التأسيس للمؤسس أحمد بن طه على مدخل القبليّة [مصدر الصورة: © 2008 شتيفان كنوست]