الأهمية المعمارية والتاريخية

[مصدر الصورة: © 2006 شتيفان فيبر]

اتبعت حملة البناء التي قام بها بهرام باشا في حلب الاستراتيجية الحضرية العثمانية في تطوير المنطقة التجارية المركزية، وبشكل خاص الشارع الرئيسي الممتد من القلعة شرقاً إلى باب أنطاكية غرباً. في الوقت نفسه، شرعت هذه الحملة بتوجه جديد تمثل في تطوير الضواحي الشمالية الغربية ذات الأهمية الاقتصادية لتكون مباني بهرام باشا في حي الجديدة أول منشآت تقام خلال العهد العثماني في تلك الضواحي. فسر بعض الباحثين هذا التوجه على أنه نتيجة لحملات البناء واسعة النطاق التي شهدتها المنطقة التجارية المركزية في القرن السادس عشر مما أدى إلى نقص المساحات المتاحة للبناء وارتفاع قيمة العقارات ودفع مؤسسي المجمعات الوقفية إلى مراكز عمرانية جديدة. [20] إلى جانب ذلك يجب أن لا نغفل حقيقة أن حي الجديدة قد بدأ بالازدهار كمركز حرفي، وبشكل خاص صناعات نسج الحرير والقماش منذ أواخر القرن الخامس عشر، مما جعله بحد ذاته جاذباً للتدخلات الحضرية. [21]

تتجسد الأهمية المعمارية لجامع البهرمية في عمق التأثيرات الإقليمية والمحلية التي تجاوزت العناصر الزخرفية أو تقنيات البناء لتشمل عناصر معمارية جديدة استعملت للمرة الأولى في حلب. إنه الجامع الذي اعتبره دافيد "بداية للامركزية التأثير". [22] وكان هذا واضحاً من خلال استخدام الايوان خماسي الأضلاع جنوب قاعة الصلاة والإيوانين الجانبيين الضخمين، وهي العناصر التي رجح الباحثون أصولها المحلية والاقليمية بدلاً من الأصول المركزية الامبراطورية. لذلك ليس من المجدي تقييم جامع البهرمية دون وضعه في نفس السياق مع الجوامع العثمانية المعاصرة له محلياً وإقليمياً ؛ كجامع العادلية وجامع بهرام في ديار بكر، حيث تمثل جميعها سلسلة في تطور نموذج معماري مشترك. من الناحية الزخرفية، يمثل جامع البهرمية خطوة إضافية في اقتباس العمارة العثمانية لعناصر من المخزون المعماري المحلي للمدينة. ففي الجوامع السابقة الخسروية والعادلية، اقتصر الاقتباس على الفترة الزمنية الأقرب وهي أواخر العصر المملوكي أما في البهرمية فنلاحظ استعارة عناصر من الفترة المملوكية المبكرة وصولاً إلى العصر الأيوبي كما رأينا في تصميم المداخل ومحراب قاعة الصلاة.

مع نهاية القرن السادس عشر كان التأثير المركزي في عمارة جوامع الولايات نتيجة طبيعية للهيكل التنظيمي المعماري في الإمبراطورية حيث كان المكتب المعماري السلطاني مسؤولاً عن تصميم وتنفيذ المشاريع المعمارية لعائلة السلطان والنخبة الحاكمة في كل من العاصمة والولايات. وقد شاركت المحترفات السلطانية بدرجات متفاوتة في تصميم وبناء مشاريع الولايات. فبالنسبة للإنشاءات السلطانية، كان من المعتاد إرسال مهندسي العاصمة للإشراف عليها أما مباني الولاة فكانت توكل إلى المعماريين والحرفيين المحليين مع إمكانية تزويدهم بارشادات التصميم العامة والمخططات من المكتب المعماري السلطاني. [23] بشكل مواز لهذا الهيكل، يتضح لنا من دراسة الجوامع العثمانية في حلب مستوى إضافي من التأثير وهو المستوى الإقليمي، وخاصة بين المركزين الحضريين الرئيسين في المنطقة، حلب وديار بكر. ويبدو أنه كان للولاة دور هام في تفعيل هذا التأثير. فتناوبهم على ولاية مراكز المنطقة قد مكّنهم من التعرف على تقنيات البناء التقليدية والعمل مع البنائين والمحترفات المحلية. في الواقع، لقد تولى اثنان من رعاة حركة البناء الواسعة في حلب خلال القرن السادس عشر ديار بكر وأنشأ مجمعات وقفية فيها، وهما خسرو باشا وبهرام باشا. ورغم أن تأكيد وفهم طبيعة دور الولاة مايزال بحاجة إلى أبحاث مستقبلية، إلا أن نجيب أوغلو قد ذكرت بالفعل مثالين على التفاعل المعماري الإقليمي. الحالة الأولى كانت في مجمع محمد سكوللو باشا في باياس (1580) حيث شارك معماريّون وبنّاؤون من حلب في الإنشاء. [24] والحالة الثانية كانت عندما قام بهرام باشا نفسه باستدعاء بنّائين مهرة وحجّارين للرخام من مسقط راسه في غزّة ومن القدس لبناء حمامه في ديار بكر بشكل مشابه للحمامات الجميلة التي رآها في المدن العربية.  لذلك فقد طرحت نجيب أوغلو احتمال أن يكون بهرام باشا قد رأى جامع العادلية في حلب وطلب من المعمار سنان تصميم جامع مماثل له في ديار بكر. [25]

إن جامع البهرمية كان المثال الأخير في حلب لتفاعل مستمر بين التأثيرات المحلية والإقليمية والمركزية أفرز ثلاثة جوامع مميزة خلال القرن السادس عشر. ولو قدر لحملات البناء في المدينة أن تستمر بنفس الزخم في القرن اللاحق، لكان هذا التفاعل قد أنتج المزيد من الأمثلة على عمارة عثمانية إقليمية متميزة.

الحواشي

[20] ريمون، الأوقاف الكبرى، 116.

[21] لمزيد من التفاصيل حول تاريخ الحي وبنيته الاجتماعية والاقتصادية انظر: دافيد، وقف إبشير باشا في حلب، 60-67.

[22] دافيد، مجالات وحدود العمارة الإمبراطورية، 183.

[23] لمزيد من المعلومات حول تنظيم فعاليات العمارة والبناء في ولايات الإمبراطورية العثمانية خلال الفترة الكلاسيكية، انظر: نجيب أوغلو، عصر سنان، 157-161، وكافستشي أوغلو، في صورة الروم، 82-84.

[24] نجيب أوغلو، عصر سنان، 360.

[25] نجيب أوغلو، عصر سنان، 468.