الإطار التاريخي الاجتماعي والعمراني

بقلم شتيفان كنوست

[مصدر الصورة: © 2006 شتيفان فيبر]

حلب تصبح عثمانية

بتاريخ 25 رجب 922هـ / 24 آب 1516م، اشتبكت الجيوش المملوكية والعثمانية في مرج دابق القريبة من مدينة حلب، وكان النصر حليف العثمانين. خلال فترة قصيرة تم دمج حلب وكامل سوريا وبلاد الشام في الدولة العثمانية المتنامية والتي كانت عاصمتها إسطنبول. خلال العقود التي تلت الغزو، اتجهت السياسات العثمانية لإعداد حلب لتلعب دورها كواحدة من مراكز التجارة الرئيسية في هذه الإمبراطورية الشاسعة.

كانت حلب منذ القدم مركزاً تجارياً مهماً بسبب موقعها الجغرافي منتصف الطريق الواصل بين وادي الفرات والبحر الأبيض المتوسط تقريباً. عبرت طرق التجارة الطويلة القادمة من شرق البحر الأبيض المتوسط عادة نهر الفرات الواقع شرق  حلب، واستمرت شرقاً نحو إيران وآسيا الوسطى وجنوب بلاد الرافدين.

استفاد المماليك الذين حكموا من القاهرة، من دور حلب التجاري وبنوا الخانات والأسواق في المدينة لأهميتها التجارية؛ ولكن في القرن 10هـ / 16م اتخذ المد الحضري شكلاً وبعداً مختلفين. ومع ذلك بقي الإطار القانوني– الإداري لهذه الالتزامات – مؤسسة الوقف على حاله.

الشكل 1: الخسروية، مسجد الجمعة [مصدر الصورة: © 2007 شتيفان كنوست]

الوقف والتنمية العمرانية

تم تأسيس هذه الأوقاف لتحقيق أهداف فردية دينية أو اجتماعية. عادة يتم التمييز بين الوقف الخيري الذي تستفيد منه مباشرة المؤسسات الدينية أو الاجتماعية كالمساجد أو المدارس (الكليات الإسلامية) أو الزوايا (نزل الدراويش) أو المستشفيات والوقف الأهلي (أو الذري) الذي يعود بالفائدة بادئ الأمر على نسل الواقف قبل أن يتحول في النهاية إلى وقف خيري يدعم الفقراء عادة.

منذ العصور الوسطى، أصبح الوقف بشكل متزايد الأداة المختارة لتنفيذ مشاريع البنية التحتية الكبيرة. لقد كان نور الدين الزنكي (المتوفى في 569هـ /1174 م) من أوائل الذين استخدموا مؤسسة الأوقاف لإعادة بناء المدن السورية بعد قرون من الانحطاط والدمار [1].

فيما بعد لجأت العديد من السلالات الحاكمة كالأيوبيين والمماليك إلى هذه السياسة أيضاً، ولكن العثمانيون أنعشوها بحياة جديدة واستخدموا مؤسسة الوقف لخدمة مشاريعهم الإمبراطورية.

الشكل 2: الخسروية، مسجد الجمعة، بلاط مزخرف [مصدر الصورة: © 2007 شتيفان كنوست]

الوالي خسرو باشا ووقفه

يعود أصل خسرو باشا، الراعي لأول كلية على الطراز العثماني (مجمع من الأبنية التي تقدم احتياجات المجتمع الاجتماعية والدينية) في حلب، إلى البوسنة وقد تم تجنيده كجزء من الدوشيرمه (بالتركية devșirme)، التي يتم من خلالها جمع الصبية قسراً من العائلات المسيحية في بلاد البلقان والأناضول إلى صفوف الجيش العثماني والخدمة المدنية. شغل منصب والي حلب في النصف الثاني من ثلاثينيات عام 930 هـ / النصف الأول من ثلاثينيات عام 1530 م، وعاد إلى المدينة مع بداية الحملة ضد إيران الصفوية خلال شتاء عام 941 هـ / 1534–153 م. [2]

يتألف مجمع خسرو باشا المعماري من مسجد الجمعة (الجامع)، المدرسة (الكلية الإسلامية)، التكية (نزل المسافرين) مع الإمارت (وهو مطبخ عام يوفرالطعام بشكل أساسي للمسافرين). بني المجمع أمام القلعة، ليحتل مكاناً بارزاً مجاوراً لمركز السلطة المملوكية القديم. اكتمل في عام 953هـ / 1546–1547م؛ وتم تدميره في عام 2014. على الجانب الآخر من الزقاق، تتوضع قيسارية وهي هيكل تجاري يحوي أكثر من 50 محلاً. خان الشونة المدمر جزئياً حالياً، هو واحداً من العديد من المباني المشابهة الذين استثمروا لتأمين نفقات الوقف. حيث زود هذا الوقف مع غيره من الأوقاف العثمانية الأخرى حلب في القرن 10هـ/ 16م بالبنية التحتية اللازمة لتصبح محوراً هاماً لطرق التجارة.[3]

يتطلب إنجاز مثل هذا المجمع الكبير في قلب مدينة حلب بعض العمليات العمرانية المتطورة. كان لابد من تملك بعض العقارات، بعضها كانت في ما سبق أملاكاً موقوفة تتضمن مسجداً ومدرسة.[4] وعلى الرغم من معارضة بعض القضاة، بدلت ممتلكات الوقف بأخرى، شريطة أن يقرر قاض أن ذلك يعود بالفائدة على الوقف.

مسيرة حياة الخسروية المديدة

عندما تم تأسيس وقف خسرو باشا لأول مرة، كان من بين أغنى الأوقاف في حلب، ولربما يأتي في المرتبة الثانية بعد الجامع الأموي. حيث أتاح العديد من فرص العمل لعلماء الدين الحلبيين المسلمين. ولهذا السبب، قدم شرعية إضافية للحكم العثماني في حلب. كان الوقف في العقود التي أعقبت تأسيسه واحداً من أكثر المراكز الدينية نشاطاً، إن لم يكن الأنشط على الإطلاق في حلب.

صرفت أموال الأوقاف على ما مجموعه 117 وظيفة. توزعت بشكل تقريبي على اثنين من مقيمي الصلوات (الأئمة)، خطيب المسجد ومدرس بالإضافة إلى ثمانية منح لطلاب المدرسة. إلى جانب الوظائف الدينية "الأساسية"، كالإمام أو الخطيب، كان يعمل آخرون كقراء لقسم معين (سورة) من القرآن فقط.

في البداية تم توظيف عدد كبير من الأشخاص في التكية والمطبخ، كالطباخين مع مساعدين وعامل لتنظيف الرز وخبازين، مما يؤكد أهمية هذه المرافق للمؤسس خسرو باشا. وهكذا لم يكن أبناء عائلات النخبة من العلماء الوحيدون الذين يعتمدون في تأمين موردهم المادي على وقف الخسروية، وإنما أيضاً عدد من عامة الشعب [5].

يشهد عدد الموظفين وعائدات أملاك الوقف على الأهمية الاقتصادية الكبيرة للخسراوية في هذا الجزء من حلب. أمر الوالي أن يتبع إمام الصلاة ومدرس المدرسة المذهب الحنفي، وهو المذهب الرسمي للدولة العثمانية. كان تمكين هذا المذهب في حلب خطوة أخرى نحو انخراط أفضل في الدولة العثمانية [6].

ينص الفقه الإسلامي على أن الأوقاف تبقى وقفاً ثابتاً للأبد، لكنها كانت كغيرها من العقارات معرضة للاهتراء والتدمير من حين لآخر بسبب الزلازل والصراعات العسكرية.

على مدى فترة تمتد بين القرنين 10 و 13هـ / 16 و 19م، يمكن ملاحظة زيادة تكاليف ترميم وقف الخسروية، وأنها استنفذت عائداتها المخزنة. ونتيجة لذلك، اضطر المتولي إلى خفض النفقات.

لم يتم تسجيل أي نفقات للمطبخ والتكية من منتصف القرن 12هـ / 18م، بالإضافة لاختفاء العديد من الوظائف الأخرى. من ناحية أخرى، قدم الوقف بعد ذلك رواتب للمفتي الحنفي في حلب (الذي كان إلى جانب القاضي شخصاً مهماً في المجتمع المسلم للمدينة)، ولإمام الجامع الأموي وشيخ المكتب (معلم المدرسة الابتدائية) [7].

أثر فيما بعد زلزال عام 1237هـ / 1822م بشكل كبير على المنطقة المحيطة بالقلعة مخلفاً دماراً طال معظم العقارات المتبقية المدرة للدخل في محيط المجمع ومضراً بالمسجد بشكل مباشر.[8] في بداية القرن 14هـ / نهاية القرن 19م، تم إعادة بناء وإحياء جامع الخسروية وبعض وظائفه كالمدرسة. وقد تم تجديدها مرة أخرى بعد عام 1338هـ / 1920م بسبب احتلال الجنود للمبنى خلال الحرب العالمية الأولى [9]. بقيت المدرسة الأكثر أهمية في حلب بمنهجها "التقليدي" حتى منتصف القرن 20 وقد تم توظيف أساتذتها من بين العائلات الأكثر شهرة بين علماء الدين المسلمين، مثل المؤرخ الشهير محمد راغب الطباخ الذي شغل منصب مديرها خلال فترات الانتداب الفرنسية (1920–1946) [10].

الحواشي

[1] اقرأ هايدمان،” الصدقة والتقوى من أجل التحول،” 153-74.
[2] واتنبوغ، صورة المدينة العثمانية، 71-72.
[3] واتنبوغ، صورة المدينة العثمانية، 63-64.
[4] الغزي، نهر الذهب، 2:95.
[5] كنوست، مؤسسة الوقف الديني وإطارها، 299–301. 
[6] الغزي، نهر الذهب، 2:95.
[7] كنوست، مؤسسة الوقف الديني وإطارها،180-83.
[8] كنوست، „التعايش مع الكوارث، “304. 
[9] الغزي، نهر الذهب،95:2.
[10] جولميه، "ملاحظة على الحالة الراهنة،" 118-19.