إفادة شخصية

اندريه يعقوبيان - مقابلة مع بولص مكربنه

[مصدر الصورة: © 1982 جان كلود دافيد]

أيلول 2019

لقد تعرفت على خان الوزير وأنا طفل صغير عندما كنت أرافق والدي إلى معمله ومكتبه الكائن بداخل الخان. يومياً عند ذهابنا للخان كنا نمر في البداية على مبنى بريد باب الفرج لنفتح صندوق البريد الخاص بنا، ونأخذ رسائلنا، ونتابع طريقنا بواسطة الترام أو مشياً.

تغير موقع المعمل عدة مراتٍ وأخيراً استقرينا بصدر الخان. أذكر أن المعمل كان في البداية بالجهة الشمالية والتي هدمت لاحقاً أثناء شق الطريق الواصل من الجامع الأموي إلى القلعة. كان يحكى لنا بأن الطريق كان عبارة عن زاروب ضيق من يمر به يستطيع لمس جداري الزاروب بكلتا يديه. ولتوسيع ذلك الطريق من أجل تسهيل المرور لبعض البيوت، تم هدم جزء من الخان وجزء كبير من المطبخ العجمي المقابل له.

بعد استملاك المحلات بخان الوزيرعوضت لنا البلدية مبلغاً صغيراً، انتقلنا لصالون الخان وهو مكانٌ جيدٌ يقع تماماً فوق المدخل. المحل عبارة عن قاعةٍ كبيرةٍ جداً، مربعة الشكل يُصعد إليها من درجين متقابلين أحدهما على يمين مدخل الخان والآخرعلى يساره. تابعنا أعمالنا في هذا الصالون حوالي سنة ونصف ثم انتقلنا إلى الواجهة الغربية حيث مازلنا فيه حتى اليوم. 

لديّ ذكرياتٌ جميلةٌ جداً في الخان. عندما كنت طفلاً صغيراً كان عمي ووالدي يملكان معملاً صغيراً للنسيج بالقرب من مدخل الدرج الصاعد. فيه اثنان من أوائل الأنوال التي كانت تنسج الأطلس بحلب، وكان لديهم ترخيصٌ قديمٌ بمزاولة المهنة في الخان رغم ضجيجها المرتفع. ومازلت حتى اليوم أسمع صوتها بداخلي، وكنت أستطيع  من خلال هذا الصوت معرفة حالة عملها أو تعطلها وأنا جالس في المكتب السفلي.

كانت منتجاتنا مشهورةً باسم أطلس مكربنة، ومن عادات أو مستلزمات الزواج بحلب أن يضم جهاز العروس ألبسةً مصنوعةً من أطلس مكربنة لأن نوعيتها ناعمةٌ ومتينةٌ ومشهورة. زاولنا بعدها مهنة التجارة العامة بالإضافة لصناعة النسيج، ومنذ أيام جدي كان مكتبنا يضم عدة رفوفٍ نعرض عليها بضائعنا من أطلس ونسيجٍ قطني، وكان لدى جدي منتجات مسجلة يُصدّر جزءٌ كبيرٌ منها للعراق وللموصل تحديداً حيث كان لديه زبائنه الخصوصيين.

ومن ذكرياتي البعيدة وعند زيادة الطلب على منتجاتنا كنا نوزع أعمالنا على بعض القيسريات التي فيها أنوال لزيادة إنتاجنا. هناك حرفيةٌ خاصةٌ للعمل على النول حيث يجلس العامل أمام أدواته ويدخل أقدامه بحفرة تحته ليستخدمها برفع وخفض خيوط السدة الذي يحضّرها المسدي ويستخدم أياديه كي يحدف (يقذف) المكوك يميناً ويساراً لتتم عملية النسج.

لقد تغيرت الكثير من الأشياء أمام الخان منها هدم القيسرية التي كانت أمام مدخله وإغلاق بئر الماء داخله بجانب المدخل، كذلك كان يوجد فتحة صهريج ماء بالقرب من باب معملنا أغلقت أيضاً.

بعدها حوّلت المكتب لقنصلية سويسرية، وفي عام 2008 و 2009 قمت بفعاليات ومهرجانات سورية سويسرية كانت ترعاها محافظة حلب والسفارة السويسرية في دمشق، منها عرض أزياء، معارض ولقاءات ثقافية وفنية. أقامت فرقة موسيقية من سويسرا حفلاً جميلاً وكانت سهراتٍ رائعة. هناك فسحةٌ واسعةٌ جداً أمام القنصلية تتسع ل 600 شخص. كان جو الخان هادئاً ونظيفاً، وأثناء العروض الفنية كانت الإضاءة الملّونة تعطي جمالاً رومانسياً وراحةً للمكان لأنّها كانت تبرز جماله المعماري من أقواسٍ وأعمدةٍ وفسحات. لقد هُجر الخان حالياً بسبب الحرب ومرت ثمان سنوات وهو مازال مهملاً، الحجر يبكي حزناً والأشجار لم يعد لها أثر، للأسف حالته غير مرضية.

منذ عدة أيام ذهبت للخان للقيام بعدة ترتيبات وقد خصصت ثلاث ساعات للعمل به، ولكني لم أحتمل وجودي فيه سوى ثلاث أرباع الساعة. قلبي يعتصر ألماً وحزنت جداً ولم تعد لدي الرغبة بالمتابعة. كلّ شيء تراه يحمل ذكرى وتدمع العين لتلك الذكريات. عشت في هذا الخان بمجد أيامه، والآن ترى كل ذكرياتك مرمية على الأرض وكل مقتنياتك مبعثرة، لا أنصح أحد بزيارة بيته المحطم. لا أستطيع عمل أي شيء للخان بمفردي، لأني لست الوحيد الذي يعمل فيه، هناك العديد غيري لهم آراؤهم. الاهتمام الرسمي بالمكان ليس له الأولوية حالياً بسبب العمل بحلب القديمة وهي ذات مساحة كبيرة جداً. الاهتمام بالأسواق يأخذ الحيز الأكبر، ولكن لي أمل بأن تستلم الخان جهة مهتمة بالتراث العالمي بإمكانيات أكبر من إمكانياتنا لتعيده كما كان.

بولص مكربنه