إفادة شخصية

اندريه يعقوبيان - مقابلة مع ربى رستم

[مصدر الصورة: © 2009 لمياء الجاسر - تصوير م. ليا مولود ]

أب 2019

أنا ربى رستم دكتورة في الطب البشري، مغرمة بحلب بشكل كبير. ليس بأوابدها التاريخية فقط، بل أيضاً بتراثها الإجتماعي والإنساني. ضمن هذه الاهتمامات تعرفت على الزاوية الهلالية كونها مكاناً لإقامة حلقات الذكر منذ ثمانمائة عام وحتى الآن. تابعت ذلك النشاط من أجل الموروث الطربي، وهو ما يعطي المكان بالنسبة لي أهمية أكبر بكثير من أهميته المعمارية. رغم أن عمارته تدلّ على جمالٍ ورهبةٍ فريدين، وغرفه المتتابعة لها سحرها الخاص وهيبة عظيمة لم أشعر بها في مكانِ آخر. لهذا المكان بعدٌ روحانيٌ عجيب، وعندما زرته لأول مرة ذهلت جداً بحلقات الذكر المميزة جداً.

الزاوية الهلالية عبارة عن بناء له فسحة داخلية مربعة الشكل، جدرانها ذات كسوة خشبية مذهلة، في محيطها الداخلي يوجد أربعون غرفة خشبية، عشرون غرفة بمستوى الفسحة وعشرون غرفة أخرى بمستوى شرفتها الداخلية. أبعاد الغرفة متر ونصف طولاً ومتر عرضاً، وهي مخصصةٌ لشخصٍ واحدٍ ممن يودّون ممارسة أحد طقوس الصوفية المسمّى بالحضرة. يقيم المتصوف في تلك الغرفة بمفرده للتصوف والإعتزال، للوصول لصفاء النفس والتواصل الروحي مع الذات الألهية، بعيداً عن شوائب الحياة، ويُقدّم له طعامه وشرابه بشكل منتظم في مكان عزلته. يقيم فيها لمدة أربعين يوماً ولا يغادرها إلا لقضاء حاجاته، بشكل يشبه إعتزال الرهبان كالقديس سمعان العامودي وسواه. يُمارس هذا الطقس في الزاوية الهلالية منذ نشوءها وحتى أنه لم يتوقف خلال الحرب.

التصوف هو عملٌ واسعٌ جداً، مدة الأربعين يوماً تعتبر تاريخياً من الأرقام المقدسة حتى قبل ظهور الأديان السماوية، لذلك بنيت في الزاوية غرفها الأربعين نسبة لذلك الرقم.  

لحلقات الذكر قواعدها وطقوسها حيث يقود الجلسة الشيخ القائد، يساعده شخصان يرددان معه القصائد والموشحات وتعدد المقامات الآسرة، وإثنان آخران يصفقان بأيديهما لضبط الإيقاع. فيكون بطيئاً أو سريعاً حسب الموشح الذي تُردد كلماته، يرتفع الصوت أو ينخفض ليعطي الجو المثالي للحالة. بينما يكتفي باقي الأشخاص المشاركين إما بالاستماع  فقط أو الترديد مع المرددين. والجميل بالأمر هو الطقس المميز بموشحاته القديمة والمهمة وذات مستوى موسيقي رفيع. إنه طقس بديع يشارك فيه حتى الأطفال، ولكنّه جوٌ ذكوريٌ لا يُسمح للنساء بالمشاركة به، ولهذا تبقى النساء في الخارج تسترق النظرإلى ما يحدث بالداخل وتعيش الحالة معهم.

لأني مهتمةٌ بالتراث الحلبي والموشحات والقدود الحلبية قمت بالسؤال عن الأماكن التي تقام فيها حلقات الذكر وعلمت أن هناك أكثر من سبعة زوايا في حلب منها الاسماعيلية والبادنجكية وكذلك الهلالية وهي أشهرها وأقدمها وأعرقها، ولهذا السبب بدأت بالتردد لتلك الزاوية. هناك التقيت مع الدكتور جمال الدين الهلالي، الذي درس الطب ومارس عمله كطبيب في ألمانيا، ولمّا توفي والده الذي كان قائداً لحلقات الذكر عاد هو من ألمانيا ليستلم الزاوية ويقوم بمقام والده، إذ أن مهمة صاحب الزاوية تُنقل بالتوارث في عائلته. طلبت منه بالدخول وأعربت عن الرغبة في حضور حلقات الذكر فأجابني بأنه لا يسمح للنساء الدخول، ولمّا ناقشته بأنه لا يوجد نص قرآني يمنعني من ذلك، اقتنع بكلامي ولكنّه تمسك بالعادات المتبعة، وأجاب أنه لن يجعل حلقات الذكر مختلطة لأن صفتها وتاريخها ذكوري، رغم تأكيده لي بأن ذلك ممكن منطقياً. تقام حلقات الذكر كل يوم جمعة بعد صلاة العصر وتستمر لمدة ساعتين تقريباً. للزاوية موروثٌ ثقافيٌ حلبيٌ قديمٌ جداً.

عدت من بيروت إلى حلب مع صديقتي في بداية عام 2019 وأول جولة لنا كانت في أحياء حلب القديمة بعد غياب طويل، أثناء تجوالنا بمنطقة الجلوم بالصدفة وكان عصر يوم الجمعة سمعنا صوتاً إيقاعياً رتيباً يردد كلمات الله... الله... الله... الله...  تبعت مصدر الصوت من حارةٍ لأخرى لأجد نفسي فجأة أمام الزاوية الهلالية، كنت قد نسيت مكانها ولكن الصوت هو الذي شدّني إليها مجدداً، وترديد كلمة الله... الله... الله... بتلك الرتابة المعهودة. أشجع كل إنسان على المشاركة في تلك الحلقات، لأن المكان ساحرٌ بشكلٍ يفوق الوصف.

الزاوية لها قيمة تاريخية كبيرة، لأن حلقات الذكر لم تتوقف فيها مطلقاً رغم جميع الحروب، وبقيت مستمرة كل يوم جمعة، وجميع الأشخاص الذين يقيمون شعائرهم في الزاوية لا يعتبروا متشددين دينياً! أنا مهتمة في الموروث الموسيقي الغني جداً والفريد الذي يقام فيها، والأشخاص الذين تركوا أثراً فنياً فيها من أمثال بكري الكردي وعمر البطش والشيخ حسن الحفار.

إزالة القبور في الباحة الخارجية لم تؤثر على مسار حلقات الذكر الأسبوعية التي تقام فيها. مازال المكان موجود والطقس الرائع مستمر، وعندما يكون لديك الرغبة في حضور إحدى الحلقات فالموعد ثابت، وحضورها ممكن. وحتى لو كان للجلوس على إحدى درجاتها فإن لهذا قيمة كبيرة لي. قمت بتعريف أغلب صديقاتي على تلك الزاوية، ومنهم صديقتي اللبنانية وهي مسيحية من الجنوب اللبناني. عندما زرنا الزاوية وضعت الحجاب على رأسها وجلست على إحدى الدرجات، وبدأت صديقتي بسماع هدير صوت الرجال، ولم تتلفت حولها بل ركزت على الأصوات ودخلت في عالم الروحانيات، في حالة تشبه الغياب عن المحيط كما يحدث للرجال في داخل الزاوية.

يوم الجمعة عندما ترى الرجال قادمين من الجوامع بعد الصلاة، تلفت نظرك الأصالة العميقة لهذا الطقس، حيث يرتدون الجلابيات البيضاء تفوح منهم رائحة ماء الزهر والمسك والعنبر، ويضعون على رؤوسهم العرقيات، يدخلون بالحالة جميعاً، وبوجود الشيخ القائد تشعر بالإحترام والنظام الشديدين. بعد الحرب أنا متفائلة، أفرح على الذين يرمموا ولا أحزن على الذي هدم. نظرتي للوضع مضيئة، وسررت جداً بأن الزاوية لم تهدم وحلقات الذكر مازالت تتردد كل أسبوع. ولكنني أرى رؤية مختلفة، لقد بقي هذا الطقس الديني الحلبي الأصيل، وبقي بمثل هذه الأناقة، ومع وجود أطفال وفتيان ويافعين تعلموا من الكبار تلك الطقوس وحفظوها، وحفظوا الموشحات الغير معروف أصلها من قدمها.

كما نهتم بالعمارة والأبنية علينا الإهتمام بالموروث الثقافي لأننا نتناقله شفهياً وهو غير موثق. حلب عنيدة جداً، هذا واضح تاريخياً، هناك أسرار تحت أرضها تحميها، تراثنا لن يضيع.

أنا أؤمن بمدينتي وعندي يقين حقيقي بها. هذه المدينة لن تموت.

ربى رستم