المخطط المعماري
في دراسته لجامع البهرمية، وصفه دافيد بأنه بناء غريب. [7] وفي الواقع، فإن هذه الغرابة قد نتجت عن تمازج المؤثرات المعمارية المركزية الامبراطورية والاقليمية والمحلية من جهة ومن التغييرات واسعة النطاق والمتلاحقة التي شهدها البناء من جهة أخرى. لذلك، سيتم أدناه وصف مخطط الجامع وفقاً لعناصره المعمارية الأصلية فقط بينما سيتم تناول العناصر التي أعيد بناؤها لاحقاً خلال الحديث عن التدخلات التي شهدها البناء.
للجامع ثلاثة مداخل تؤدي إلى فنائه. (الشكل 3) يقع المدخل الرئيسي في الجهة الشمالية في وسط سوق الواقف تتقدمه ثلاث قباب مرتفعة. (الشكل 4 و5) يتبع تخطيط الجامع التخطيط المحوري التقليدي المتعارف عليه في الجوامع العثمانية. فالمدخل الرئيسي يحاذي بدقة مدخل قاعة الصلاة، والذي بدوره يحاذي المحراب في وسط جدار القبلة. على عكس الجوامع العثمانية السابقة في المدينة، فإن المدخل الرئيسي لجامع البهرمية غني بالزخارف. المدخل مبني بشكل كامل بصفوف متناوبة من الحجر الكلسي والبازلت (نظام الأبلق) ويحيط به إطار عريض تغطيه الزخارف الهندسية المحفورة. يعلو باب المدخل قوس مجزوء من المزررات ويقع ضمن إيوان ينتهي بقوس مدبب عوضاً عن الطاسة المقرنصة المعتادة (الشكل 6 و7). يقع مدخلا الجامع الآخران بشكل متقابل على الجانبين الشرقي والغربي للفناء. بني هذان المدخلان بشكل متطابق وأبسط من المدخل الرئيسي حيث تتوضع الأبواب المبنية بصفوف الأحجار المتناوبة ضمن أواوين تنتهي بأقواس مدببة (الشكل 8 و9).
تقع قاعة الصلاة جنوب الفناء ذي المسقط المستطيل والمساحة الواسعة. [8] أما في الجهة الشمالية من الفناء فتوجد آثار لرواق لم يعد موجوداً. تدل هذه الآثار على أن الرواق كان يتألف من 11 مجازاً (الشكل 10). كما كان يوجد حوض للوضوء في وسط الفناء مبني من الحجر الأصفر ومسقوف بقبة. بالإضافة إلى الفناء الأمامي، توجد حديقة خلفية جنوب قاعة الصلاة يقع فيها مدفن بهرام باشا وأخيه رضوان باشا.
يتقدم قاعة الصلاة رواق طويل يتألف من تسع مجازات. (الشكل 11) تغطي المجازات الأصلية المتبقية قباب صغيرة تستند على أقواس مدببة وأعمدة رشيقة ذات تيجان مقرنصة (الشكل 12 و13). وتتوضع مزاريب المياه أسفل الافريز العلوي لواجهة الرواق بين كل قوسين. أما المئذنة التي أعيد بناؤها في وقت سابق، فتقع في الجانب الغربي من الرواق. لا تتوفر معلومات حول شكل المئذنة الأصلية ولكن الرحّالة العثماني أوليا چلبي اعتبرها "الأجمل في حلب" عندما زار المدينة في عام 1671-1672.[9]
يوجد إيوانان على جانبي قاعة الصلاة يطلان على الحديقة الخلفية عبر نافذتين سفليتين ونافذة صغيرة علوية، وقد زُوّد كل منهما بمحراب صغير. (الشكل 14) يتيح الإيوان الغربي الوصول إلى المئذنة والرواق العلوي الغربي داخل قاعة الصلاة، بينما يتيح الإيوان الشرقي الوصول إلى الرواق العلوي الشرقي وإلى غرفة صغيرة قد تكون مخصصة للزائرين المرموقين. نظراً لعدم وجود أمثلة سابقة، فقد أثار هذان الإيوانان بعض النقاش، حيث اعتبرهما دافيد "عنصراً حلبياً" محليّاً وأشار إلى مثال لاحق تم فيه استعمال هذه الأواوين في حلب وهو المدرسة العثمانية التي بنيت في القرن الثامن عشر. [10] بينما ناقش باحثون آخرون احتمال أن تكون هذه الأواوين قد تطورت أو اشتقت من عناصر معمارية اقليمية أخرى. حيث اعتبرتهما واتنبوغ تطوراً لغرفتي (الطبخانة) المجاورين اللتين تقعان في العادة على جانبي قاعة الصلاة في الجوامع العثمانية المصممة وفق النموذج T [11]. وأشارت إلى مثالين لهذا النموذج من الجوامع في المنطقة هما جامع خسرو باشا في حلب (1546) وجامع إسكندر باشا في ديار بكر (1551). (الشكل 15) سواء كانت هذه الأواوين ذات أصل محلي أو اقليمي، فإنها قد استعملت للمرة الأولى في جامع البهرمية في حلب. جمالياً، تكسب هذه الايوانات بعداً ديناميكياً لفراغ الرواق الأمامي أما وظيفياً فإنها توفر مساحة إضافية للصلاة حيث إنها مزودة كما ذكر سابقاً بمحاريب صغيرة.
بعيداً عن هذه الميزة الخاصة، يتبع تصميم واجهة قاعة الصلاة الأسلوب الامبراطوري المتبع في الجوامع العثمانية. حيث تقع بوابة القاعة في منتصف الواجهة، تحيط بها نافذة ومحراب صغير من كل جانب. بنيت البوابة بشكل كامل من صفوف الحجارة المتناوبة، ويتوضع المدخل ضمن إيوان يعلوه قوس مدبب (الشكل 16). إن غياب الطاسة المقرنصة جعل تصميم البوابة أقرب إلى التقاليد المحلية في البناء مقارنة مع بوابات الجوامع العثمانية السابقة في المدينة. يعلو المدخل زخارف حجرية محفورة وشرائط مقرنصة (الشكل 17) تذكرنا ببوابة جامع أوغول بك المملوكي (1480). (الشكل 18) تم بناء نوافذ قاعة الصلاة أيضاً من صفوف الحجارة المتناوبة ويعلو نجفاتها المستقيمة أقواس حجرية تخفيفية (الشكل 19).
قاعة الصلاة ذات مسقط مربع يبرز منه إيوان كبير خماسي الأضلاع في الجهة الجنوبية. في الأصل كانت القاعة مغطاة بقبة مركزية ترتكز على ثمانية أقواس وأربع حنيات ركنية. ماتزال الأجزاء المتبقية من هذه الحنيات تحتفظ بحلياتها الدائرية وأطنافها المغطاة بثلاثة صفوف من الشرائط المقرنصة (الشكل 20 و21). وفقاً لدافيد، فقد غطت القبة الأصلية مساحة قدرها 324 متراً مربعاً مما جعل قاعة الصلاة في جامع البهرمية الأكبر بين الجوامع العثمانية في حلب. [12] على طول الأضلاع الأربعة لقاعة الصلاة توجد أواوين تضم النوافذ السفلية وقد زودت الأواوين الجانبية منها بمحاريب صغيرة في ضلعها الجنوبي (الشكل 22 و23 و24). إن المسقط ذي الأواوين كان حلاً إنشائياً قام بتطويره المعمار سنان لتركيز انتقال الحمولات في نقاط محددة. أقدم مثال لهذا الحل الانشائي هو جامع خادم ابراهيم باشا في سيليفري كابي في اسطنبول (1551) (الشكل 25). أما المثالين الأقرب إلى البهرمية فهما جامع العادلية في حلب (1565) وجامع بهرام باشا في ديار بكر (1972-1973). [13] (الشكل 26) بشكل مشابه لهذين الجامعين أيضاً، تضم قاعة الصلاة أروقة علوية يتم الوصول إليها عبر أدراج مبنية ضمن الجدران. تتألف واجهات الاروقة من أقواس تستند على أعمدة رشيقة مما يزيد من غنى التصميم الفراغي للقاعة (الشكل 27). توجد أيضاً غرفتان صغيرتان بنيتا ضمن الجدران في الزاويتين الشمالية الشرقية والشمالية الغربية للقاعة ويمكن الوصول إليهما من خلال الأواوين المجاورة. وفقاً لنص الوقفية فقد استعملت هاتان الغرفتان كأماكن لتخزين البسط والسجاد والمصابيح الزيتية والشموع.
يضم الإيوان الجنوبي في قاعة الصلاة المحراب في ضلعه الجنوبي وأربع نوافذ في أضلاعه الباقية (الشكل 28). تحيط بالمحراب والنوافذ أقواس مدببة مبنية بصفوف الحجارة الملونة وتستند على أعمدة تزيينية تتوضع في الزوايا (الشكل 29 و30). فوق كل قوس يوجد نافذة صغيرة يعلوها افريز رفيع يحدد بداية قبو السقف. على الرغم من ظهور الأواوين خماسية الأضلاع في العمارة العثمانية في أواخر القرن الخامس عشر، إلا أنها نادراً ما استخدمت في إسطنبول. ولكنها من ناحية اخرى شكلت جزءاً من تقاليد البناء المحلية في ديار بكر حتى قبل الفتح العثماني للمدينة كما أشارت واتنبوغ واستشهدت بالعديد من الأمثلة مثل مسجد أيني منارة (1489)، مدرسة ومسجد خسرو باشا (1521-1528) ومدرسة خادم علي باشا (1537-1543). [14] لذلك، فمن المرجح عزو استعمال هذه الايوان في جامع البهرمية إلى التأثيرات الاقليمية وليس المركزية الامبراطورية.
يذكرنا المحراب والمنبر بالتقاليد المحلية الحلبية المتبعة في بناء هذه العناصر المعمارية. فالمحراب الجميل المبني من الحجر الكلسي الأصفر والرخام الملون يشبه إلى حد كبير المحاريب الأيوبية في المدينة (الشكل 31). يبدو ذلك واضحاً عند مقارنته مثلاً مع محراب مدرسة الفردوس (1235-1236). (الشكل 32) يتكون المحراب من تجويف عميق نسبياً تحفه أعمدة زخرفية مدمجة ذات تيجان مقرنصة وأفاريز عريضة. تغطي التجويف ألواح متناوبة من الرخام الفاتح والداكن تنتهي بأقواس صغيرة مما يمنحها مظهر المحاريب الصغيرة. تسقف التجويف طاسة تغطيها خمس صفوف من المقرنصات الصغيرة، فيما تغطي الجزء العلوي من المحراب زخارف متداخلة متعددة الألوان. أما المنبر فقد بني من الحجر الأصفر والرخام الابيض وتغطيه زخارف هندسية من الموزاييك الرخامي.
الحواشي
[7] دافيد، مجالات وحدود العمارة الإمبراطورية، 184.
[8] تذكر الوقفية أبعاد الفناء الداخلي بشكل واضح: 29 ذراعاً من الشمال إلى الجنوب و50 ذراعاً من الشرق إلى الغرب. وفقاً لواتنبوغ، فإن هذا التحديد يعكس صعوبة تأمين مثل هذا الفراغ المفتوح الكبير في المركز التجاري حيث كانت قيمة العقارات مرتفعة جداً. انظر: واتنبوغ، صورة مدينة عثمانية، 85.
[9] جلبي، الرحلة، 9: 375. استشهدت واتنبوغ بهذا الوصف، صورة مدينة عثمانية، 86.
[10] دافيد، مجالات وحدود العمارة الإمبراطورية، 183.
[11] واتنبوغ، صورة مدينة عثمانية، 87.
[12] دافيد، مجالات وحدود العمارة الإمبراطورية، 185.
[13] لمزيد من المعلومات حول جامع خادم إبراهيم باشا في إسطنبول وجامع بهرام باشا في ديار بكر، انظر: نجيب أوغلو، عصر سنان، 391-396 و467-469.
[14] لمزيد من التفاصيل انظر واتنبوغ، صورة مدينة عثمانية، 88-89.