الجامع والمدينة

[مصدر الصورة: © 2008 رامي الأفندي]

إن المؤرخ الغزي في وصفه لأحياء حلب، وكذلك وثائق من سجلات المحكمة الشرعية أيضاً، تميز الفضاء العمراني بين داخل حلب وظاهر حلب. من الواضح أن هذا التمييز كان لايزال مهماً في العصر العثماني، عندما فقدت أسوار المدينة التي تمثل الحدود بين هذين المجالين أي أهمية استراتيجية ولم تعد مرئية في بعض الأجزاء. إن هذا الموضوع مهم لتاريخ بنقوسا حيث أن موقعها يحدد مركزها ضمن شبكات المدينة ومكانة مسجدها.

تنقسم المدينة العثمانية إلى وحدات أصغر - خاصة في حالة المدن الكبرى - تساعد في تنظيم العديد من جوانب الحياة اليومية (الأمن وإمدادات المياه ودفع الضرائب، وما إلى ذلك). الحل المعتاد هو تنظيم اجتماعي يشبه الأبرشية، حيث تتولى الوحدات - المحددة عرقياً أو دينياً في بعض الأحيان - بعض هذه المهام.عند مراقبة المدن في الشرق الأوسط، نلاحظ أنه في بعض الأحيان يبدو الحي الإداري - على الأقل في العهد العثماني - منسجماً مع المجتمع الرعوي المنتظم حول مسجد الحي.

تكشف نظرة سريعة إلى التاريخ أن شكل وحجم مدينة حلب يتغيران بشكل كبير بين القرنين 12 و 15م. يتميز النصف الثاني من القرن 12 م بالتجديد العمراني في معظم أنحاء سوريا وبلاد ما بين النهرين. هذه "النهضة العمرانية" تنطوي في حالة حلب على نمو الضواحي الممتدة إلى ما وراء الأسوار، كما يصف المؤرخ ابن شداد[1]. كان الدمار الناجم عن الغزو المغولي (1260 م) وحصار تيمورلنك للمدينة (1400 م) يتعلق بشكل أساسي بهذه الضواحي وتقليل حجمها بشكل كبير وتغيير شكلها.

أدى اندماج حلب في الإمبراطورية العثمانية عام 1516 مرة أخرى إلى فترة من النمو العمراني، وتم إنشاء شكل الضواحي الجديدة. أدى ازدهار حلب في القرون اللاحقة، والذي اعتمد بشكل أساسي على التجارة البعيدة، إلى زيادة كثافة المباني بشكل رئيسي في الضواحي.

المساجد والشعائر التي تتم فيها لها علاقة مميزة جداً بالمدينة، ولاسيما صلاة الجمعة مع خطبتها التي لا يمكن إجراؤها إلا في المدينة. يخدم الجامع الرئيسي في المدينة - "مسجد الجمعة" - هذا الغرض. يجب أن يكون هناك جامع واحد فقط في المدينة للسماح بتجمع المصلين جميعاً في ذلك المكان أثناء صلاة الجمعة. يفترض أن يبني الحاكم المسجد ويعين إمامه وخطيبه. يعتبر حضور خطبة الجمعة واجباً فردياً (فرض العين) على جميع سكان المدينة من المسلمين الذكور البالغين. أصبح تحقيق هذه المهمة أكثر صعوبة مع تزايد المدن - وخاصة المجتمعات المسلمة في الداخل - وأصبح أكثر من مسجد جمعة واحد في المدينة مقبولاً. قد يتم إنشاء مساجد الجمعة الإضافية هذه في أجزاء مميزة من المدينة، ووحدات عمرانية متميزة، مفصولة عن الأجزاء الأخرى من المدينة بنهر أو جبل أو واقعة على تل، إلخ.

في القرن 13 م بحلب، كان هناك العديد من مساجد الجمعة في أجزاء مميزة من المدينة. كان هناك أحدها على القلعة، يحتل المكان الذي يوجد فيه مذبح النبي إبراهيم، كما تزعم الأسطورة. من المحتمل أن يكون هذا المسجد موجوداً منذ زمن المرداسيين (القرن 5 / 11) وأعاد بناؤه الظاهر غازي، الحاكم الأيوبي لحلب (610/ 1213)[2]. بالإضافة إلى مسجد الجمعة في القلعة، ذكر ابن شداد أحدها في ضاحية حدير سليماني في جنوب غرب المدينة، والذي لم يبق منه أثر اليوم (بالقرب من حي الكلاسة الحديث خارج الأسوار). أما البعض الآخر فكانوا في حي الرمادة خارج الأسوار في الشمال وفي بنقوسا[3]، ليضيفوا ما يصل إلى خمسة مساجد للجمعة في حلب، بما في ذلك الجامع الأموي. نلاحظ أنه حتى نهاية الحكم الأيوبي في حلب (1260 م)، تم تطبيق مبدأ أنه يجب أن يكون هناك مسجد جمعة واحد فقط في الكيان الحضري بشكل عام. في داخل أسوار حلب، بقي الجامع الأموي الوحيد. بعد نهاية الحكم الأيوبي، تم بناء العديد من مساجد الجمعة الجديدة في أحياء مختلفة، واكتسبت رعاية بناء هذه المساجد ووقفها قاعدة أوسع.[4]

وهكذا كان مسجد بنقوسا أحد مساجد الجمعة القديمة في حلب بالإضافة إلى الجامع الأموي الكبير. لايزال التاريخ الدقيق لتأسيس جامع بنقوسا غير واضح.[5] من الممكن أن جامع بنقوسا الحالي هو خليفة للمسجد المذكور في القرن 13. ومع ذلك، لم يبقَ أي منشآت من تلك الفترة، ويرجع ذلك بالتأكيد إلى التدمير المذكور سابقاً لضواحي حلب في حوادث عديدة.[6]

يسلط المؤرخون الضوء على هذا الجامع، فيسميه ابن الحنبلي "الجامع الكبير ببنقوسا"، ويذكر كذلك شخصاً اسمه أحمد ابن أحمد البدامي (940- 1533) الذي كان يسكن في إحدى الغرف في جامع بنقوسا أثناء تدريسه في حلب بعد أن شغل منصب قاضٍ في ماردين.[7] يذكر الغزي أنه خلال فترة وجوده (حوالي عام 1900)، لم يكن هناك جامع آخر في حلب يضاهي أهمية جامع بنقوسا من حيث عدد الحضور والشعائر التي يتم إجراؤها فيه.[8]

تؤكد سجلات المحكمة الشرعية في حلب من العهد العثماني هذا التقييم: وثيقة تتعلق بتعيين مدرّس جديد، تخبرنا على سبيل المثال أنه يجب عليه التدريس لمدة أربعة أيام في الأسبوع في المسجد، يومين للحديث ويومين آخرين للفقه الحنفي. وتشير الوثيقة نفسها إلى المسجد باسم "جامع خاص بك المعروف بالمسجد الكبير"[9]. وثيقة أخرى وهي عقد الوقفية، تنص على قراءتين للقرآن يومياً، واحدة تنتهي بسورة ياسين، والأخرى بسورة الكهف كل يوم جمعة.[10]

أُنشئ في عام 1222/ 1807 وقف صغير يُظهر بشكل نموذجي أهمية جامع بنقوسا: يوقف حاج إبراهيم داراً في حي ابن نصير القريب من المسجد لزوجته ومن بعد وفاتها لمصلحة المسجد. ينفق جزء من عائدات الوقف لقراءة القرآن.[11] هذه الأوقاف الصغيرة والتي يوجد العديد منها في السجلات، من المحتمل أن يعود إنشائها إلى الأشخاص الذين يعيشون بالقرب من الجامع، وتشكل جزءاً من مجتمع رعية المسجد، وهي تدل على الانتماء إليه. كان جامع بنقوسا من بين الجوامع الأكثر شهرة في العصر العثماني، ولاسيما في النصف الأول من القرن 19.[12]