الأهمية المعمارية والتاريخية

[مصدر الصورة: © 2006 شتيفان فيبر]

كان مجمع الخسروية الذي بني منذ أكثر من 450 عاماً، بمثابة علامة فارقة لبداية تحول النمط لكل من مشهد المدينة وعمارة المساجد في حلب في منتصف القرن 10هـ / 16م.[1] كان هذا أول مجمع عثماني إمبراطوري أنشئ هناك من قبل مسؤول عثماني كبير. ينسب تصميم المجمع المميز إلى مكتب الإمبراطورية الهندسي في اسطنبول والذي كان المعمار سنان  رئيسياً له [2].

لأول مرة بعد الفتح العثماني لحلب في عام 922هـ / 1516م، تم إنشاء كلية في المقاطعة العربية السورية وهي مجمع عثماني يضم العديد من المرافق ذات الوظائف الاجتماعية والدينية المختلفة.[3] في الحقيقة كانت مدرسة الخسروية -إلى جانب جامع ومدرسة العثمانية (في النصف الأول من القرن 12هـ / 18م) - المدرستين الدينيتين الوحيدتين اللتين بنيتا كجزء من طراز هذا المجمع خلال العهد العثماني [4].

على عكس المساجد السابقة التي بنيت في حلب فقد صُمّم جامع الخسروية كبناء مركزي بارز في وسط مجمع معماري مستقل يهدف إلى تأثير بصري مباشر ولافت. [5] وهذا يدل على التحول من الطابع المملوكي إلى الطابع الإمبراطوري العثماني. وقد سادت القبة نصف الكروية المميزة والمئذنة النموذجية ذات النهاية المدببة (على شكل قلم رصاص) أفق المدينة جنوب القلعة. خلال العقود التي أعقبت منتصف القرن 10هـ / القرن 16م، استمر ذلك الطابع مع جامع العادلية وجامع البهرمية، وبموقعهما يشكلان محوراً جنوبياً موازياً للمحور الغربي-الشرقي الرئيسي للسوق المركزي المغطى [6].

لقد احتل الجامع الجديد في زمن إنشائه المرتبة الثانية من حيث المساحة، بعد الجامع الأموي أو الجامع الكبير في حلب. كانت قاعة الصلاة في المسجد، المصممة كمربع قائم بحد ذاته مع قبة نموذجية هي الأكبر والأعلى في حلب ومن دون أعمدة داعمة للسقف، ويتقدم الجامع رواق.[7] تميز الفراغ الداخلي المركزي بشكل أساسي عما وجد في أي مسجد آخر تم بناؤه في حلب حتى ذلك الحين، مما وفر إحساساً مختلفاً تماماً عن الفراغ والضوء. بالرغم من ذلك، ظلت بعض عناصر التصميم مرتبطة بتقاليد البناء المحلي [8].

ظهر داخل قبلية الجامع نوع جديد من الشرفات الداخلية (السده) التي تحتل الركن الشمالي الغربي منها، والتي بنيت على عشرة أعمدة مع المقرنصات الكبيرة إلى جانب المقرنصات التقليدية.

من الممكن للوهلة الأولى تشبيه جامع الخسروية بالجوامع العثمانية التقليدية بسبب ما يسمى تبهانة (غرفة الضيوف الجانبية) التي أنشئت هنا لتوسيع الجزء الأمامي من قاعة الصلاة على كلا الجانبين، والتي تذكر بعنصر ذي أهمية وظيفية رسمية هامة في عمارة المساجد العثمانية المبكرة. ولكن بحلول فترة السلطان سليمان الأول ابتعدت العمارة عن هذا الأسلوب بشكل تدريجي في العاصمة اسطنبول ثم في المراكز الإقليمية بما فيها حلب [9].

ظهرت على إثر الأسلوب المعماري المختلف والمميز لمجمع الخسروية عناصر تصميمية جديدة في حلب. من أبرزها البلاط المزجج متعدد الألوان والمزخرف بألوان زاهية وأشكال هندسية، والذي يغطي أعلى النوافذ في قاعة الصلاة، وفي الواجهة الأمامية داخل الرواق. تم تزويد المئذنة بحزام زخرفي من البلاط المزجج باللونين الأزرق والأبيض أسفل شرفتها [10].

بالرغم من ذلك، فقد استخدمت العناصر السورية التقليدية، والتي تعود معظمها للحقبة المملوكية السابقة، وقد اختلطت مع عناصر الحقبة العثمانية، في زخرفة المبنى وفي تصميم المحراب ومنبر الخطبة وبوابة دخول قاعة الصلاة [11].

الأهمية الاجتماعية والاقتصادية

من بين الوظائف الاجتماعية والتعليمية والدينية المختلفة التي تم تأسيس وقف الخسروية الخيري من أجلها كان إنشاء التكية.[12] لقد نصب السلاطين العثمانين أنفسهم أوصياء على الحج الإسلامي إلى المدن المقدسة مكة والمدينة بعد السيطرة على الأراضي العربية (1516-1517)، وقد لعب ذلك دوراً حاسماً في شرعيته الدينية.

تصف وثيقة وقف الخسروية الثالثة (الوقفية، بتاريخ 974هـ / 1566م) الوجبات اليومية التي كان يتم إعدادها في المطبخ العام وتوزيعها على موظفي المدرسة وطلابها، وكذلك على ضيوف التكية: كان على الطهاة والخبازين إعداد 260 رغيف خبز و 14 رطلاً (6.34 كغ) من لحم الضأن المطبوخ يومياً لتناول طعام الغداء والعشاء، و 8 أرطال (3.62 كغ) من لحم الضأن المطبوخ مع الرز كحساء، ولوجبات الإفطار خلال شهر الصوم المقدس (رمضان)، أما في ليالي يوم الجمعة وليالي رمضان، فكانوا يستهلكون (10) أرطال (4.5 كغ) من الرز لصنع الحلويات [13].

لم تكن حلب محطة مهمة تخدم طريق الحج جنوباً إلى الحجاز فحسب خلال الفترة العثمانية بل أصبحت ثاني أهم مركز إقليمي في الإمبراطورية للتجارة الداخلية والخارجية، الواقعة على مفترق الطرق الرئيسية بين أوروبا وآسيا وأفريقيا.[14] لذلك ساهمت عائدات الدخل في وقف الخسروية الخيري، كالمحلات التجارية والخانات، بشكل كبير في تحقيق شأن اقتصادي أعلى لكونها استثماراً هاماً في البنية التحتية التجارية للمدينة والولاية.

أظهر خسرو باشا ولاءه للسلطان العثماني بعد حوالي 30 سنة من الحكم العثماني لحلب من خلال إنشاء أول مجمع متعدد الوظائف (كلية) بمسجد جمعة على الطراز العثماني.[15] كما يبدو أن مجمع الوقف كان أيضاً وسيلة لتثبيت حكم عائلته في حلب.[16]

كانت الخسروية بوصفها مدرسة دينية -إلى أن دمرت مع المجمع- أهم وأرقى مؤسسة تعليمية إسلامية في حلب والمنطقة الشمالية من سورية [17].

 

الحواشي

[1] واتنبوغ، صورة المدينة العثمانية، 37، 58، 120.
[2] كافي سيلوغلو، "في صورة الروم"،83-84؛ دافيد، "مجالات وحدود"، 190-191.
[3] واتنبوغ، صورة المدينة العثمانية، 50-52.
[4] قاسمو، "مشروع ترميم الأحمدية"، 15. 
[5] واتنبوغ، صورة المدينة العثمانية، 69-70. 
[6] واتنبوغ، صورة المدينة العثمانية، 61، 173.
[7] الجاسر، "تطور عمارة المدارس،" 439.
[8] الجاسر، "تطور عمارة المدارس،" 353.
[9] واتنبوغ، صورة المدينة العثمانية، 64-65؛ أوغوز، "أبنية متعددة الوظائف"، 99-100. 
[10] نجيب أوغلو، عصر سنان، 473. 
[11] واتنبوغ، صورة المدينة العثمانية، 66-67. 
[12] واتنبوغ، صورة المدينة العثمانية، 76-77. 
[13] الغزي، نهر الذهب، 96:1-97.
[14] واتنبوغ، صورة المدينة العثمانية، 122. 
[15] واتنبوغ، صورة المدينة العثمانية، 11-12. 
[16] الغزي، نهر الذهب، 93:2.
[17] واتنبوغ، صورة المدينة العثمانية، 76.